استقالة ميقاتي: سُنّة لبنان والغربة عن العرب

لا أسف على مَن يستصغر نفسه ويسمح للآخرين أن يحطّوا من قدره. إنّها حكاية مأساويّة للسنّيّة السياسيّة. ينعدم التأثير لدى السنّة، فيما يلهثون خلف حسابات شخصيّة ومصلحيّة، فيبتعدون عن ثوابت ومبادئ. يتغرّبون عن العرب. يتحوّلون إلى مطايا لمشاريع تتعارض مع أساس وجودهم وفكرته المرتكزة على منطلقات الدولة الوطنيّة وتعزيزها. حوّل السُنّة أنفسهم في لبنان إلى بيادق، يمكن للرياح الإقليميّة اقتلاعها ساعة تشاء. كان الحُرم سابقاً أن يتحوّل السُنّة إلى طائفة. حاليّاً تحوّلوا إلى طوائف سياسيّة ومناطقيّة يسهل قضمها واختراقها. لم يأتوا بغير الصغار الذين يسهل ابتلاعهم في السياسة وانزلاقهم إلى ما تحت الأرضيّة السياسية التي تسمح لهم بقراءة الوقائع والتطوّرات. دفنوا رؤوسهم وأنفسهم في الرمال فغابوا عن التأثير، وأصبحوا زينة للكراسي.

غالباً ما يحتاج المُصاب بمرض إلى علاج. أسوأ الأمراض هي تلك التي تطول النفس والعصب، فيستحيل علاجها. هؤلاء المرضى يعيشون في دنيا الأوهام، فيتوهّمون أدواراً متورّمة في ذواتهم، ويظنّون أنفسهم قادرين على تغيير مجريات التاريخ والتحكّم بسرعة الرياح، فتعصف بهم. لكنّ الأخطر هو أنّ وجودهم وتصرّفاتهم يسمحان بأن تعصف الريح ببيئتهم وحضورهم ووجودهم ودورهم، فيتناثرون، أو يُضطرّون إلى الانحناء عند أقدام الآخرين، بين أكعب الخيل، يغطّون أنفسهم بغبار تثيرها أقدام المعارك، فيتوهّمون حماية أنفسهم، فيما الحقيقة أنّهم يقتربون أكثر من حتفهم، ويسهِّلون إنزالهم إلى ما تحت التراب.

يمكن للأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج أن تعصف بكلّ ما تبقّى من لبنان. هنا يُصاب البعض بالعمى، أو بقصر النظر. في الفترة السابقة للأزمة مع دول الخليج، كان لا بدّ من التوجّه إلى الرئيس نجيب ميقاتي بضرورة الاستقالة، لسبب واحد لا غير، وهو منع تحقيق رئيس الجمهورية ميشال عون وحزب الله سيطرتهما الكاملة على الدولة العميقة في لبنان، من خلال تعيينات وتشكيلات أُجبِر عليها ميقاتي وتعهّد بها مقابل السماح له بتشكيل حكومته. وقد بدأت معالم هذه السيطرة تظهر من خلال أسر الحكومة على خلفيّة التحقيق في تفجير المرفأ، ورفض جبران باسيل تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء. بالإضافة إلى إعداد سلّة من التعيينات القضائية والأمنيّة والإدارية، إلى حدّ أنّ أحد الوزراء قال لباسيل إنّ توقيعه وقلمه ملكه، فما عليه سوى اختيار ما يريد من تعيينات لتوقيعها.

في الفترة السابقة للأزمة مع دول الخليج، كان لا بدّ من التوجّه إلى الرئيس نجيب ميقاتي بضرورة الاستقالة، لسبب واحد لا غير، وهو منع تحقيق رئيس الجمهورية ميشال عون وحزب الله سيطرتهما الكاملة على الدولة العميقة في لبنان

نجيب ميقاتي في شرّ رغباته؟

أصبح نجيب ميقاتي في مصيدة. وقع في شرّ رغباته الحكومية. هو لا يبدو قادراً على تحقيق أيّ إصلاح للعلاقة مع دول الخليج، وغير قادر على الاستقالة، إذ يرتبط بحسابات مصلحيّة تخصّه وحسابات فرنسية تخصّ ماكرون وحده الذي لا يريد أن يتلقّى ضربة جديدة في لبنان. لكنّ الحكومة لن تكون قادرة على تسيير أيٍّ من المشاريع التي كان يتوهّم ميقاتي أنّه قادر على إنجازها. فالتفاوض مع صندوق النقد الدولي سيتوقّف، ومسار استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية سيتأثّر، ولذا لن يبقى لرئيس الحكومة سوى بعض الحسابات الضيّقة والتفصيليّة. أحد هذه الحسابات ظهر في مطالبته مدّعي عامّ التمييز القاضي غسان عويدات بإعادة صلاحيّات القاضية غادة عون في إطار صفقة جديدة تتضمّن المزيد من التنازل لرئيس الجمهورية. فعويدات يريد البقاء في منصبه، وربّما يتوهّم أنّه قد يصبح رئيساً للحكومة إذا أرضى عون. أمّا ميقاتي فيريد إغلاق حسابه مع غادة عون.

 يعمل ميقاتي وفق ثلاثة خطوط – رهانات:

– الخطّ الأوّل هو رهانه على الدعمين الفرنسي والأميركي.

– الخطّ الثاني هو الفصل بين موقف دول الخليج من جهة، وبين الجامعة العربية من جهة أخرى.

– الخطّ الثالث هو رهانه على انتهاز هذه الأزمة وجعلها فرصة لإعادة تصحيح العلاقات. ولكنّ هذه الخطوط الثلاثة لا يمكنها أن تؤدّي إلى أيّ مكان إلا إلى تقطيع المزيد من الوقت، والسقوط أكثر في الهاوية، على وقع استفحال الأزمات السياسية والماليّة والاقتصادية، مقابل إعلاء شأن حسابات شخصيّة ومصلحيّة ضيّقة.

إقرأ أيضاً: ميقاتي: استقِل.. وأوقفِ التذلّل لفرنسا والحزب

أراد ميقاتي من تشكيل الحكومة تحقيق هدفين فقط:

– الهدف الأول هو أن يصبح رئيساً للحكومة لمرّة ثالثة، فيوجِّه ضربة لسعد الحريري ورؤساء الحكومة السابقين.

– الثاني هو إرضاء الفرنسيين والتوجّه إليهم بأنّه هو مَن أنقذ مبادرتهم ولو على حساب السياسة ومعنى الكرامة والثبات، فيحمي مصالحه في فرنسا وأوروبا، ويتجنّب العقوبات التي كان يهدِّد بفرضها الفرنسيون والأوروبيون.

ليست المطالبة باستقالة نجيب ميقاتي واجبة على خلفيّة الأزمة مع دول الخليج، بل لتجنّب السقوط أكثر في هاوية سياسيّة سحيقة لا نجاة منها.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…