في مديح سمير جعجع.. وهجائهِ

من الصعب أن تقف ضدّ سمير جعجع. ومن الصعب أكثر أن تقف معه.

أحياناً يتكثّف الزمن في حادثة. وأحياناً تتكثّف اللحظة في رجلٍ واحد. وفي ذاك الحين، عليكَ أن تعرف ماذا ستفعل، وعلى أيّ جانب من التاريخ ستقف. وهنا تكمن الصعوبة في تحديد موقف حاسم من استدعاء سمير جعجع إلى القضاء العسكريّ.

جعجع مقاتل؟ لا جدال. أمير حرب؟ نعم. لا نعرف عدد الذين قتلهم؟ صحيح. مثله كلّ أمراء الحروب. كلّهم مقاتلون. ولا نعرف كم قتلوا. لكنّهم في القتل سواءُ

في البداية، لا بدّ من القول إنّ جعجع، ومنذ ترشيحه ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بات “في جيبة جبران باسيل”. أوصله إلى بعبدا. ثمّ لحق به في قانون الانتخابات الذي سلّم مجلس النواب ليخرج جنرالات الحرس الثوري ويعلنوا فوزهم بـ74 مقعداً فيه. ثمّ تخلّى عن سعد الحريري ولم يصوِّت له في الاستشارات النيابية، عملاً بمبدأ “القويّ في طائفته”، الذي أوصل عون إلى بعبدا. ثمّ أخطأ الخطيئة الكبرى، حين وضع كلّ السياسيّين الذين لاحقهم القاضي طارق البيطار، زوراً وبُهتاناً، في سلّةٍ واحدة. ولم يميِّز بين “فريق حزب الله”، وبين مَن هم في صفّه، وإلى جانبه، بالمواجهة المفتوحة مع إيران وحزبها.

من هذا الواقع المعقّد، تبدأ الحكاية مع “الحكيم”. وكاتب هذه السطور، الخارج على الحزب المسلّح في طائفته، ومثله الآلاف، لم يخرجوا بطراً ولا طمعاً في سلطة. بل خرجوا لأنّهم يؤمنون بالدولة، وبالدولة فقط. ولم يتركوا “شيعيّتهم السياسيّة”، لينخرطوا في بقايا أحلام “مارونيّة سياسيّة” من هنا أو من هناك. لم يهربوا من سلاح الحزب، ليتلطّوا في عباءة أحلام سلاح القوّات. ولم يرفضوا الانضمام إلى الداخلين في دين الممانعة أفواجاً، وهي الأقوى والأقدر والأكثر اقتداراً، ماليّاً وخدماتيّاً وسياسيّاً، لينضمّوا إلى اللاهثين وراء أوهام الميليشيا التي سبق أن جرّبناها. في الحرب جرّبناها فكانت مجرمة. وفي السلم جرّبناها فأغرقتنا بميشال عون. واليوم تأتينا الدعوة لنجرّبها، لعلّ الله يقضي أمراً كان مفعولا.

من هنا: من الصعب أن تقف ضدّ سمير جعجع. ومن الصعب أكثر أن تقف معه.

فالتضامن مع سمير جعجع بوجه القضاء العسكري، يشبه الواجب.

لا أستطيع أن أمنع نفسي من التضامن معه. لكنّ التضامن يزداد صعوبةً لأنّه حين حمل السلاح، سقط “7 بضربة”، بينهم المدنيّ الأعزل علي إبراهيم الذي كان يوصل “ديليفيري”، وبينهم مريم فرحات، الأمّ التي قُتِلت بدم بارد في قلب منزلها. وبينهم متحمّسون، وبينهم مَن كان يقصف عين الرمّانة.

هذه هي الحرب الأهليّة. لا يموت المسلّحون فقط. تقتُل خبط عشواء. وسمير جعجع إذ قرّر أن يسلك الخطوة الأولى فيها، جاءت ضربته قاسية. لا يهمّ مَن بدأ ومَن أنهى الجولة. فيديو “السيكو” يُقتَل وهو يهمّ بضرب “آر بي جي” لا يمحو صورة مريم وعلي.

لكنّ التضامن مع سمير جعجع يشبه الواجب.

يبحث أيتام 14 آذار عن “زعيم”. خذلهم سعد الحريري بتنازلاته. خذلهم وليد جنبلاط بتقيّته المبالغ فيها. خذلهم كلّ قادة 14 آذار. خذلهم سمير جعجع في إيصال عون إلى بعبدا، وفتح خطوط التواصل مع الحزب والتبريد معه. لكن فجأة عاد إلى صورته الأصليّة. وقرّر أن يكون الحصان القويّ في مواجهة إيران وحزبها في لبنان

هو شعور ينبع من رغبة الضحايا في الاجتماع والتفاف بعضهم حول البعض الآخر. مثل جرحى الحروب، أو ضحايا التعذيب، أو المصابين بالمرض نفسه. مثل المكتئبين أو المنبوذين. مثل مَيْل المعتقلين إلى البحث عن خطّة للهرب.

لكن في الوقت نفسه، يصرخ بي صوتٌ عالٍ وغاضب: هل هربتَ من زعيم طائفتكَ المسلّح، لتستظلّ خيمة زعيم طائفة أخرى، ومسلّح؟ كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ. كَمَنْ فسّر الماءَ بعد الجهدِ بالماءِ. من تحت الدلفة لتحت المزراب. من دهنو سقّيلو… ولا ننتهي.

جعجع مقاتل؟ لا جدال. أمير حرب؟ نعم. لا نعرف عدد الذين قتلهم؟ صحيح. مثله كلّ أمراء الحروب. لكنّهم في القتل سواءُ. كلٌّ كان يحمل قضيّة ويقاتل من أجلها. كلّهم بطلٌ هنا ومجرمٌ هناك. هذا لبنان. هذا تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.

لكن لا تفاضلَ في السوء.

فلماذا يندفع الكثيرون بمشاعر التعاطف مع سمير جعجع. هذه أحجية لا بدّ من تفكيكها.

أحياناً تتكثّف اللحظة في رجل واحد. في حادثة. في كلمة. واليوم يلتقي عند سمير جعجع الكثير من الخطوط التي تجعل من الصعب عدم التضامن معه.

يبحث أيتام 14 آذار عن “زعيم”. خذلهم سعد الحريري بتنازلاته. خذلهم وليد جنبلاط بتقيّته المبالغ فيها. خذلهم كلّ قادة 14 آذار. خذلهم سمير جعجع في إيصال عون إلى بعبدا، وفتح خطوط التواصل مع الحزب والتبريد معه. لكن فجأة عاد إلى صورته الأصليّة. وقرّر أن يكون الحصان القويّ في مواجهة إيران وحزبها في لبنان.

لنطرح السؤال من زاوية أخرى: يقترح علينا المجتمعان العربيّ والدوليّ أن نترك نصر الله ونُنَصِّب جعجع قائداً؟

ألأجل هذا نترك ذاك؟

تريدون مَن يفهم لغة السلاح والحرب؟ تريدوننا أن نتقاتل؟ أن يسفك بعضنا دماء البعض الآخر؟

أحياناً يتكثّف الزمن في حادثة. وأحياناً تتكثّف اللحظة في رجلٍ واحد. وفي ذاك الحين، عليكَ أن تعرف ماذا ستفعل، وعلى أيّ جانب من التاريخ ستقف. وهنا تكمن الصعوبة في تحديد موقف حاسم من استدعاء سمير جعجع إلى القضاء العسكريّ

تحقيق البيطار في جريمة مرفأ بيروت كان هذا هدفه. وكمين عين الرمّانة كذلك. المطلوب أن يقتل بعضنا بعضاً. بالطبع لن ترسل أميركا جنديّاً واحداً. ولن يصدر قرار عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع. علينا أن نقاتل بأيدينا وأكفاننا. علينا أن نقدّم أولادنا على مذبح محاربة حزب الله. فنقتُل ونُقتَل. أميركا سحبت مضادّات الصواريخ من السعوديّة، فهل ستحمينا؟ هل حمتنا في عهد إدارة جورج بوش الجمهورية في 7 أيّار 2008؟ هل حمت السوريّين الذين حملوا السلاح وتقاتلوا وتركتهم؟ هل حمى أوباما السوريّين؟ هل حماهم العرب؟

كلّا.

وجعجع يتحرّك ضمن أفق طائفيّ. عاب على السياسيّين السُنّة الذين تظلّلوا بخيمة دار الفتوى. ثمّ استظلّ خيمة بكركي.

قلنا مراراً لجعجع إنّ جبران باسيل سمّم تحقيق المرفأ بدحش أسماء النائب نهاد المشنوق ورؤساء الحكومات السابقين. قلنا له إنّ جهاتٍ دوليّة تلقِّن البيطار. خرجت علينا الخارجيّة الأميركيّة والخارجيّة الفرنسيّة لتدافع عن قاضٍ لبنانيّ وتدعمه، في تدخّل سياسيّ فاضح بالقضاء اللبناني. لم نسمع “شلعوطاً” واحداً في المجتمع المدنيّ يدعو إلى عدم تدخّل سياسيّين أجانب في القضاء. ولا سمعنا جعجع.

تقصّد داعمو البيطار أن يضيفوا أسماءً تجعل المواجهة بين البيطار و”الطبقة السياسيّة” ذات نكهة سنّيّة كي لا يكون مفضوحاً في استهداف الحزب ومنظومته. في العرض الذي يحاول إبرامه مع الأميركيّين، عبر الوسيط الفرنسي الذي يدير التحقيق وسيفتح أبواب الهجرة للبيطار قريباً، بدا جبران باسيل عبقريّاً. إذ يبتزّ حزب الله طالباً وعداً برئاسة الجمهورية، على أنقاض تحقيق المرفأ، ويبتزّ خصومه، الرئيس نبيه برّي وسليمان بيك فرنجية، ويعاقب النائب نهاد المشنوق. وكان جعجع يردّد وراءه: “لرفع الحصانات”، مستثنياً رئيس الجمهورية. قبل أن يصل متأخِّراً إلى الموافقة “الإعلاميّة” على رفع “كلّ الحصانات”.

وقع جعجع في امتحان طائفيّ خطير أمام باسيل وأمام المسلمين. وذهب إلى امتحان أكثر خطورة في الطيّونة. ولأنّه بات بلا حضن “وطنيّ”، لن يجد حضناً وطنيّاً في الطيّونة وبعدها. اختبأ وراء بكركي ووراء أجراس الكنائس.

وحده وقف هناك لأنّه خان زملاءه في محور مواجهة إيران عندما رفض التمييز بين متّهم وآخر. فظلم البعض بحجّة دعم البيطار.

فشل في صناعة حلف وطنيّ خلف مقاتليه في عين الرمّانة، لأنّه استخفّ واستسهل اللحاق بالبيطار “العونيّ الهوى” و”الجريصاتيّ الإدارة”، كوسيط بين باسيل وبين “الصفقة” التي يبرمها جبران مع فرنسا وأميركا.

على الرغم من كلّ هذا.

جمهور وأيتام 14 آذار الغابرة، يبحثون عن إبرة زعيم في كومة قشّ السياسة اللبنانية المعرّضة للحريق الكبير.

لهذا يشعر كثيرون اليوم أنّهم سمير جعجع. فيه شيء من مظلوميّتهم أمام مسلسل التلفيقات والاغتيالات والتهديدات.

كلّ مَن وقف بوجه السلاح، يشعر أنّه قد يكون الضحيّة التالية بعد سمير جعجع. كلّ مَن قد يقف بوجه السلاح يشعر أنّ سمير جعجع يفتديه اليوم.

إقرأ أيضاً: انتهى زمن القمصان السود.. أو دخلنا سيّدة النجاة 2؟

أحياناً يتكثّف الزمن في حادثة. وأحياناً تتكثّف اللحظة في رجلٍ واحد.

فجأة وجدنا أنّ هذا الرجل هو سمير جعجع. قوّة الإيحاء والرمزيّة جعلته صورة متقدّمة عن كلّ مَن يختلف مع حزب الله وإيران، فيكون معرّضاً إمّا للقتل أو التهديد أو تركيب الملفّات.

لهذا من الصعب أن تقف ضدّ سمير جعجع اليوم. ومن الصعب أكثر أن تقف معه.

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…