نموذج السيسي: كيف فعلها الرجل؟ (1/2)

سوف يذكر التاريخ أنّ في دول العالم الثالث نموذجاً جديداً للحكم اسمه “العسكرية الإصلاحيّة”.

هذا النموذج يُطبّق بنجاح الآن في مصر تحت حكم المؤسسة العسكرية المصرية، وبقيادة الرئيس عبد الفتّاح السيسي.

استطاع “نموذج السيسي” أن يُحقّق في زمن غير مسبوق إعجازاً في الإنجاز لدولة كانت على وشك الانهيار، وأمّة على حافّة التقسيم، ووطن لا مستقبل له.

هنا لا بدّ من طرح 4 أسئلة جوهرية لمعرفة حقيقة تجربة “نموذج السيسي”:

السؤال الأوّل: ما هي خصوصية المؤسسة العسكرية المصرية؟

يدرك الرئيس السيسي أنّ للمدرسة العسكرية المصرية 4 صفات مميّزة، وهي:

1- إنّها مؤسّسة وطنيّة تؤمن وتدافع عن مشروع الدولة الوطنية.

2- إنّها ليست ذات طموحات غزو خارجي، لكنّها تؤمن فقط بحماية الأمن القومي للبلاد والعباد.

3-  إنّها تختار الولاء للحاكم أو الشارع بناءً على المصلحة الوطنيّة العليا. فهي تقف مع الحاكم إذا كان في الأمر دفاع عن الأمن القومي أو المصالح العليا للبلاد أو تحرير الأرض، وتقف مع الشعب إذا انحرف الحكم عن الدستور أو مصالح الناس أو فرّط في الأمن القوميّ أو السيادة.

4- إنّها تعبير حقيقي عن التركيبة الاجتماعية لنسيج المجتمع المصري، بعيدة عن الحزبيّة أو الطائفيّة أو مصالح المال السياسي.

ويدرك الرئيس السيسي أنّ دور المؤسسة العسكرية في مصر، منذ أحداث كانون الثاني 2011، هو دور “إنقاذي فرضته الضرورة القصوى وليس الرغبة في السلطة أو التسلّط”.

في عام 2011، كان دور الجيش الانحياز للشارع الذي رفض مبدأ توريث السلطة في نظام حكم جمهوري، ومن هنا كان الجيش صمام الأمان لمنع الفوضى ورعاية الفترة الانتقالية.

وفي حزيران 2013، كان الانحياز للشارع الذي رأى في حكم الإخوان 3 خطايا كبرى:

1-  خداع الجماهير ونقض روح ونصوص دستور البلاد حينما أصدر الرئيس مرسي الإعلان الدستوري المكبّل الذي كرّس فيه السلطة كاملةً في يده.

2-  الفشل والإخفاق الواضحان في إدارة البلاد من قبل الإخوان.

3- حكم البلاد لم يكن حكم الرئيس المنتخب، لكن حكم مرشد الجماعة التي أرادت تحويل البلاد والعباد إلى نموذج أقرب إلى حكم ولاية الفقيه في إيران ممزوجاً بأشكال مزيّفة من شكل الحكم “الإردوغانيّ”.

يدرك الرئيس السيسي أكثر من غيره حقيقة مؤلمة، وهي حقيقة ضعف المؤسسات السياسية بسبب الضربات المتكرّرة التي تلقّتها القوى والأحزاب والمؤسسات لمدة أكثر من 60 عاماً متتالية منذ عام 1952

هذا النوع من الحكم الذي يؤمن “بالأمّة” وليس “بمشروع الدولة” فيه تناقض جوهري قاتل مع دور مؤسسة الجيش التي يتعيّن عليها في هذه الحالة أن تصبح، لا قدّر الله، ميليشيا عسكرية، مثلما هو حادث مع الحرس الثوري الإيراني أو القوات الخاصة التركية الموجودة الآن في سوريا والعراق وليبيا وقطر.

من هنا، ومن هنا فقط، يمكن فهم تحرّك القيادة العامّة للقوات المسلّحة في كانون الثاني 2011 وحزيران 2013.

السؤال الثاني: ما هي طبيعة عبدالفتاح السيسي الذي يقود هذه التجربة ويبني نموذج “العسكرية الإصلاحية”؟

قد لا يعرف البعض أنّ الرئيس السيسي منذ بداية حياته العسكرية كان ولا يزال يؤمن بمشروع الدولة المدنية في مصر، وبأنّ دور جيش مصر الوطني هو حماية وتأمين البلاد والعباد في الداخل والخارج.

وقد لا يعرف أنّه في الفترة، التي كان فيها الرئيس السيسي وزيراً للدفاع، وهي فترة صياغة الدستور الحالي، كان المطلب الرئيسي لممثّل القوّات المسلّحة في لجنة صياغة الدستور هو مبدأ “الدولة الوطنية المدنية”.

يعرف الرجل ذلك جيّداً من خلال اهتماماته السياسية بمتابعة التجارب، ومن خلال مشاركته في دورات عالية في العسكرية والتفكير الاستراتيجي، أهمّها ما درسه في 4 مراكز مهمّة:

1-  الكلّيّة الحربية المصرية.

2-  كلّيّة أركان الحرب المصرية.

3-  قاعدة “فورت بيتنج” بولاية جورجيا عام 1981.

4- كلّيّة الحرب بمدينة “كارتيل” الأميركية عام 2004. وهي التي تؤهِّل أهمّ 80 ضابطاً سنويّاً في أرفع دورة في الفكر الاستراتيجيّ.

في كلّيّة أركان الحرب الأميركية شعار مكتوب “بالبنط العريض”، لا يمكن أن تغفله العين، يقول: “لا مكان للرتب هنا”، قاصداً بذلك أنّ المكان هو مكان علم حرب وتفكير، السيادة فيه للعلم والخيارات الصحيحة وليس للمنصب أو الرتبة العسكرية.

في بحثه النهائي، الذي قدّمه الضابط المميّز عبدالفتاح السيسي، كتب: “أظهر التاريخ أنّه في السنوات العشر الأولى من أيّ ديموقراطية جديدة، ينشأ على الأرجح صراع، سواء من الداخل أو الخارج، مع اتّجاه هذه الديموقراطية الوليدة إلى مرحلة الرشد”.

ويدرك الرئيس السيسي أكثر من غيره حقيقة مؤلمة، وهي “حقيقة ضعف المؤسسات السياسية بسبب الضربات المتكرّرة التي تلقّتها القوى والأحزاب والمؤسسات لمدة أكثر من 60 عاماً متتالية منذ عام 1952”.

ويدرك الرئيس السيسي أن التزاوج بين السلطة والمال السياسي أدى إلى ضعف وفشل الأداء، وتراخي وإهمال الإنجاز الحكومي لحقب طويلة ممتدّة.

من هنا كان من الطبيعي أن يلجأ الرجل إلى المؤسسة الوحيدة الأكثر انضباطاً في الإنجاز والسلوك والنزاهة، وهي مؤسسة الجيش، لإنقاذ اقتصاد البلاد الذي أوشك على الانهيار في نهاية 2013، ومن أجل الإسراع بمشروع الإصلاح الشامل.

السؤال الثالث: ما هي نتائج هذه التجربة واقعيّاً، من دون عواطف أو انحيازات “مع” أو “ضدّ” التجربة؟

طبيعة شخصيّة الرئيس عبدالفتاح السيسي إنسانياً وفكرياً وسياسياً تجعله ينحاز إلى المصلحة العليا للبلاد والعباد.

لذا ليس مستغرباً أن نشاهد ونلمس قدراً كبيراً من الصرامة في “الحساب الإداري والسياسي” لأداء المسؤولين حتى لو كانوا من أقرب الناس إليه شخصياً أو سياسياً.

كما يقولون في مصر “في الشغل السيسي معندوش كبير”، أي إنّه لا يوجد مَن لديه حصانة في الفساد أو التراخي أو الإهمال، سواء كان مُقرّباً أو بعيداً، مدنيّاً أو عسكريّاً، من داخل السلطة أو خارجها.

باختصار، الرجل يسعى إلى النجاح، في أسرع وقت بأفضل جودة، بأقلّ التكاليف.

هنا نأتي للسؤال الأخير: ما هي التحدّيات الضاغطة التي تواجه هذه التجربة في الداخل والخارج؟

لا بدّ من التأكيد أنّ هناك 3 مستويات للقلق الشديد من صعود نموذج السيسي وتنامي عناصر القوّة المصرية:

1- قلق داخلي من قوى نظام الإخوان وجماعات المجتمع المدني المرتبطة بالخارج التي شاركت في تظاهرات ميدان التحرير عام 2011، وما يُعرف بجماعات الرفض الثوري المتأثّرة بالفكر”الأناركي” الذي يؤمن بالعدميّة السياسية وبأنّ النظام الصالح هو النظام الذي يتمّ إسقاطه. والقلق الداخلي يتركّز أيضاً على بعض قوى السلفيّة الدينية المحافظة داخل وخارج المؤسسة الدينية.

والقلق أيضاً من بعض أصحاب المصالح المالية والاقتصادية الذين اعتادوا على المزاوجة بين رجل الأعمال والفساد الحكومي.

ومبعث قلق هؤلاء هو الإشراف المنضبط للمؤسسة العسكرية على مجالات الاستثمار والمشروعات العملاقة وحركة تجارة السلع والخدمات الأساسية في البلاد، وهو ما يضع حدّاً كبيراً لاستمرار معادلة زواج المال بالفساد الحكومي.

2- القلق الثاني هو القلق الإقليمي من نموّ القوى المصرية الحالية:

هذا القلق له مستويات عدّة:

1- مستوى القوى المعادية، وأولاها قطر وتركيا.

2- مستوى جماعة الإخوان والقاعدة وداعش على مستوى دول المنطقة.

3- مستوى القوّة الإقليمية الكبرى غير العربية، وهي تركيا وإيران وإسرائيل التي ترى في تنامي مفهوم القوّة في مصر، التي جمعت “القوة الاقتصادية الصاعدة والاستقرار الداخلي وتنامي قوّة وكفاءة الأداء والتسليح العسكري”، تهديداً لمراكزها.

انطلاقاً من هنا يمكن فهم سعي كلّ من أنقره وتل أبيب وطهران في الشهور الأخيرة إلى مدّ جسور التعاون والتفاهم مع القاهرة على أساس أنّه ليس من المصلحة “التناطح” الآن مع قوّة عسكرية مُصنّفة تاسعةً على المستوى العالمي.

قلقٌ مكتومٌ حتى عند الأشقّاء على أساس أنّه على الرغم من أنّ المصلحة الخاصّة بهم تستدعي أن تكون مصر قوية “كي تكون داعماً استراتيجياً لهم”، لكن يجب ألّا يؤدي هذا إلى أن تُصبح مصر وحدها القوّة الإقليمية الأهمّ عربياً.

ولا يخفى على أحد أنّ الحقبة المقبلة بدأت وستستمرّ تحت ضغوط التنافس الإقليمي المحموم على خلق الدولة النموذج والأكثر تأثيراً في الاقتصاد والخدمات والدور الإقليمي وشبكة العلاقات الدولية.

3- أمّا القلق الأخير فهو القلق الدولي من الصعود الدراماتيكي والمؤهّل لعناصر القوى الذاتية في زمن غير مسبوق.

 

إقرأ أيضاً: نموذج السيسي: ما الذي يزعج الكبار ويخيفهم؟ (2/2)

 

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…