نريدك قائداً لا زعيماً يا سمير

أن تكون سمير جعجع، فذاك يُحتّم عليك أن تضع أصل القضية قبلة ناظريك. لماذا؟ لأنّ القائد يجب ألّا يتلهّى باليوميّات، وألّا ينجرف خلف الفتات، وألّا يتلفّت لتوافه الأمور وسفاسفها. حاله في ذلك حال البوصلة التي تشير أبداً إلى الشمال. لا مجال للمواربة. لا مكان للمحاباة. لا متّسع لنصف الكلام ومنتصف الطريق وأنصاف الحلول.

 تبدو إشارة سمير جعجع الخجولة إلى انتخابات رئاسية مبكرة أفدح من صمته، لأنّها تؤسّس لمسار من الاستنزاف السياسي المرهون بخطّة شاملة، حيث أتى هذا الطرح كخاتمة لخارطة طريق معقّدة

ولأنّنا نريد لسمير جعجع أن يكون قائداً وأن يظلّ كذلك على الدوام، أخذنا على عاتقنا مهمّة الحرص متى استطعنا إلى ذلك سبيلا. ونحن إذ ندلو بدلونا استناداً إلى رغبتنا العميقة في الوصول إلى ما يشبه الانصهار أو الالتحام مع الشركاء في الوطنيّة، نريد حقّاً أن نلامس مع سمير تلك “الماروناوية” المجرّدة التي قاربها الزميل اللمّاح عبادة اللدن على طريقته، في مقالة بديعة طرقت باب الأزمة وشرّعت الأبواب كلها على أسئلة وأجوبة تمسّ جوهر وظيفة الموارنة وأساس دورهم، ليس في الحفاظ على الكيان وديمومته ونهائيّته التاريخية والجغرافية فحسب، بل في كونهم مبتدأ التغيير السياسي ومنتهاه.

من عنق هذه الزجاجة التي نقف جميعاً في أتونها، أطلّ سمير جعجع.

يوم الأحد الماضي كنّا نودّ أن يفتتح خطابه بكلمة واحدة: إرحل. إرحل يا فخامة الرئيس. لقد دقّت ساعة الرحيل. لا مكان لمواقع فوق كرامات الناس. لا مكان لحساسيّات فوق عذابات الناس. لا مكان لعصبيّات طائفية ومذهبية ومناطقية فوق تطلّعات اللبنانيين وأحلامهم. أنا سمير جعجع. مارونيّ عتيق من كبد الموارنة الأقحاح. حفيد مار مارون وبقيّة مار نصر الله بطرس صفير. أدعوك الآن أن ترحل. وأدعو كلّ لبناني وكلّ وطني وكلّ ثائر وكلّ غيور أن يرتصف في ركاب معركة رحيلك أو ترحيلك.

هذا هو عنوان المرحلة. هذه هي كلمة المرور. هذا هو الامتحان الأدقّ في لحظات حكّ الركاب. لا يصحّ أن نمرّ عليه مرور الكرام بعبارات حمّالة للأوجه. ولا يجوز أن نقاربه بصيغة رفع العتب. القائد هو القائد. يحمل مشعله ويمضي. ويترك للجماهير والأعراف والتقاليد أن تحذو حذوه وتسلك درب جلجلته، لا أن ترسم له السقوف وتحدِّد له الخيارات. القادة لا ينتظرون جثث الخصوم عند الضفاف. ولا يعبرون الجسر هرباً من المعارك ووطيسها. بل يخوضون البحر ولا يأبهون، ما دامت بوصلتهم تُشير أبداً إلى الشمال.

لكلّ ذلك وأكثر، تبدو إشارة سمير جعجع الخجولة إلى انتخابات رئاسية مبكرة أفدح من صمته، لأنّها تؤسّس لمسار من الاستنزاف السياسي المرهون بخطّة شاملة، حيث أتى هذا الطرح كخاتمة لخارطة طريق معقّدة، وهي خارطة ربطت إنهاء العهد بإعادة إنتاج السلطة برمّتها. وهذا يعني، في ما يعني، الدوران في حلقة مفرغة، والتكريس الضمنيّ لأساسات ومُحرّمات طالما أخبرونا أنّها لا تتزحزح. وقد أثبتت كلّ التجارب صحّة ما يقولون.

على سجيّة شرّ هذا بخير ذاك، قابل سمير جعجع المراوحة في مسألة إسقاط رئيس الجمهورية، باستعادة معتبرة للخطاب السياسي المرتفع بوجه حزب الله. وهي استعادة ميمونة ومطلوبة، باعتبارها أساساً مركزيّاً وبنيويّاً للجانب الأوسع من أزمتنا العميقة، ومنطلقاً أكيداً لأيّ حلّ حقيقيّ وجدّيّ ومستدام.

مَن كان يظنّ لبرهة أنّ الانتخابات النيابية قد تُغيِّر في الواقع السياسي قيد أنملة، فهو في الحقيقة واهمٌ وموهوم

بدأ سمير جعجع خطابه بنداء إلى الشيعة، وهو نداء ينطوي على ومضات وجدانية وأخلاقية ممتازة، لكنّه جاء من خارج أيّ سياق موضوعي أو مفهوم، ولا يتعدّى، في مضمونه الكلاسيكي والتقليدي، ورقة النعناع التي يُراد لها أن تُزيّن الصحن، حيث إنّه كلام يفتقر إلى قدرته التأثيرية، بل ويشكّل مادّة دسمة لتعويم الخطاب المقابل وتعزيزه، على اعتبار أنّ المقصود والمبتغى من كلّ المتحرّكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يتلخّص باستهداف البيئة الحاضنة لحزب الله، وهو ما سيرتدّ بشكل عكسي، وسيقدّم خدمة جزيلة لمنطق التدجين والأدلجة، وهذا في الحقيقة لزوم ما لا يلزم.

على الرغم من هذه الندوب والكبوات، شكّل الخطاب بشكل عامّ انتقالة لا بأس بها من المهادنة والضياع، إلى استعادة التوثّب والقيادة، لكنّها انتقالة لا تكفي لمواكبة الأزمة، ولا تستوي مع حجم المهمّة المهولة الملقاة على كتف سمير جعجع، ليس باعتباره زعيماً آنيّاً لمرحلة أو طائفة أو منطقة، بل باعتباره قائداً تاريخياً مطالَباً بممارسة دور استثنائي وشجاع، يتخطّى كلّ السقوف وكلّ المحرّمات، ويعيد تصويب البوصلة السياسية والوطنية، حيث كان يكفي أن يتمحور الخطاب كلّه حول ثلاثة عناوين مركزية وواضحة ومختصرة:

الأوّل: إطلاق حملة سياسية وشعبية لإسقاط ميشال عون، تليها استقالات جماعية من مجلس النواب.

الثاني: تحميل حزب الله المسؤولية المباشرة عن الأزمة الهائلة التي يعيشها لبنان على كلّ المستويات، من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، إلى عزلته العربية والدولية.

الثالث: الإعلان عن تأسيس جبهة وطنيّة عريضة لمواجهة الاحتلال الإيراني، واستعادة القرار الوطني، ودعوة الجميع إلى الانخراط فيها والانضمام إليها، باعتبارها الخيار السياسي المتاح لتحقيق الخلاص المنشود.

إقرأ أيضاً: الجدار الذي يتلطّى خلفه جعجع

ما دون ذلك مراوحة وخذلان ورهان على سراب. ومَن كان يظنّ لبرهة أنّ الانتخابات النيابية قد تُغيِّر في الواقع السياسي قيد أنملة، فهو في الحقيقة واهمٌ وموهوم.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…