وطنٌ بلا مسيحيّين خيرٌ من مسيحيّين بلا وطن

هل ثمّة مَن يصرخ بهذه العبارة في وجه قائد محور جهنّم ميشال عون؟

وطن بلا مسيحيّين خير من مسيحيّين بلا وطن.

لكن تمهّل عزيزي القارئ، لأنّ العنوان ليس كما ظننت. هو استعارة من البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية الـ 118، الذي قال في أعقاب التفجيرات والاعتداءات على كنائس الأقباط في مصر بعد الإطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي عام 2013:

وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن.

يومها كان الصراع على مصر لإنقاذها من براثن الإخوان المسلمين في أوجه. وقد أيّد البطريرك تواضروس الثاني، كما شيخ الأزهر أحمد الطيّب، في تموز 2013، إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكان قائداً عامّاً للجيش ووزيراً للدفاع والإنتاج الحربي، عزل الرئيس مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وبدأت رحلة استعادة مصر.

في لبنان وبسبب كثرة الضجيج عن حقوق المسيحيين، ثمّة مَن سيعتبر هذا الكلام دعوة للذمّيّة. فالعقل السياسي المسيحي مؤسّس منذ ولادة الكيان على أنّ الحرية هي معيار الوجود في هذا الوطن الذي ينتفي إن انتفت الحريّة

كانت خيارات البابا في ما رواه أكثر من مرّة أن يسقط في فخّ الفتنة أو أن يحمل على كتفه صليب إعادة مصر إلى موقعها ومكانتها، والحفاظ على نسيجها ووحدتها. يومها قال للمسيحيين قولته الشهيرة:

وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن.

قد تبدو العبارة شديدة الغرابة. بيد أنّها ولأهمّيتها التأسيسية في إدارة الحس الوطني العامّ في المرحلة التي تلت الإطاحة بمرسي، أعاد الرئيس السيسي التذكير بها، مطلع عام 2019 يوم الافتتاح الرسمي لـ”كاتدرائية ميلاد المسيح” في العاصمة الإدارية الجديدة، بحضور شيخ الأزهر.

خلال 23 شهراً بُنِيت الكاتدرائية الجديدة الباهرة على مساحة 63 ألف متر مربع، لتتّسع لـ8200 شخص، ولتكون بذلك الكاتدرائية الكبرى في الشرق الأوسط. صارت الكنيسة ممكنة لأنّ مصر بقيت. بهذه البساطة.

موقف البابا تواضروس على أهمّيته، ليس تضحية خاصّة أو خروجاً عن مألوف الوطنية المصرية، بل تتمّة موضوعية لفهم وسلوك المصريّين تجاه “مصر”. رويت مرّة هنا أنّ صديقاً مصريّاً استغرب استسهال اللبنانيين للمنافي إن اضطروا إلى اللجوء إليها بسبب ظروف الصراع السياسي. يومها قال لي بين حريتي ومصر أختار مصر. وبين الكنيسة ومصر اختار البابا مصر.

في لبنان وبسبب كثرة الضجيج عن حقوق المسيحيين، ثمّة مَن سيعتبر هذا الكلام دعوة للذمّيّة. فالعقل السياسي المسيحي مؤسّس منذ ولادة الكيان على أنّ الحرية هي معيار الوجود في هذا الوطن الذي ينتفي إن انتفت الحريّة! أكثر مَن سيبالغون في التهويل بالذمّيّة هم الذمّيّون الأصليون الذين ارتضوا التحالف مع سلاح ميليشيا حزب الله لتحقيق مكاسب سياسية سريعة، قصيرة الأمد، ولو على حساب بقاء لبنان.

ألم تنبِّهنا فرنسا، الدولة الأمّ الولّادة للبنان، إلى أنّ البلد على شفير الاندثار؟!

يصارع قائد محور جهنّم، ميشال عون، دفاعاً عمّا يسمّيه حقوق المسيحيين، التي يختصرها بحيازة الثلث المعطِّل في الحكومة قيد التشكيل، ولا يرى أنّ معركته تحشد اللبنانيين، والمسيحيين منهم، في طوابير طالبي جوازات السفر استعداداً للهجرة، أكثر ممّا تحشدهم تأييداً لِما يعتبره هو معارك وجودية يخوضها باسمهم.

قد يبقى في لبنان حفنة من المسيحيين والمسلمين فقط، وهم ممّن لم تتيسّر لهم سبل الهجرة، أو قرّروا البقاء لأسباب منافية للمنطق.. فاللبناني بحاجة إلى سبب كي يبقى لا لسبب كي يهاجر

هل اطّلع القائد الأعلى لمحور جهنّم على تقرير “مرصد الأزمة” في الجامعة الأميركية، الذي يقول إنّ لبنان سيشهد موجة هجرة كبيرة ثالثة بعد الموجتين الكبيرتين، الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، والثانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)؟ هل يعلم أنّ أكثر من 77% من الشباب اللبناني يفكّر في الهجرة، وهي نسبة أعلى بأكثر من 20% من الشباب السوري أو الفلسطيني؟ هل يتابع حجم النزف في القطاع الطبّي والتعليمي والمهني والتجاري والفنّي وكلّ ما يجعل لبنان وطناً، أم حقوق المسيحيين، وفق تفسيره للحقوق، وإذا ما تحقّقت، ولو على خراب لبنان، كافية وتستحقّ؟

لا أستغرب أن يستنسخ الجهنّميّ مسار بشار الأسد، الذي يتربّع رئيساً فوق خراب سوريا السابقة. كيف لا وهو يوفد إلى الشام، بأوامر من والي لبنان والصدر الأعظم في طهران، وفداً وزارياً لتنسيق “تهريب” المازوت الإيراني عبر الحدود.

لهذا بدأت من البابا تواضروس.. أين وطنيّة هذا الرجل الكبير وقلبه قبل مسيحيّته الحقيقية الصافية، من كل هذا الحقد على لبنان واللبنانيين باسم الدفاع عن حقوق المسيحيين؟!

صورة الفنان المصري محمد رمضان في مسرح جريمة تفجير المرفأ تحكي الكثير عن أحوال الفنّ بالتأكيد. وتحكي الكثير عن السلوكيّات الاستعراضية التي يفرضها نهم “السوشيل ميديا” للإثارة، المعزّزة بالانفصال التامّ عن كلّ حساسيّات الواقع ومعانيه وأبعاده.

لكنّ الصورة التي أثارت سخط الكثير من اللبنانيين، تحكي أكثر عن أحوال البلد وعن صورته في المخيال العامّ. كان الفنّان قبل الحرب إذ يزور لبنان، وهذا ليس من باب النوستالجيا، يحرص على صورة تظهر خلفه صخرة الروشة، أو تظهره في كازينو لبنان أو أوتيل الكارلتون الراحل.. وبعد الحرب الأهلية بات وسط بيروت هو مختصر عودة لبنان إلى الحياة، وصار الوسط هو “اللبنان” الذي يزوره الفنّانون ويحتفظون بذكريات عنه وفيه..

صورتنا اليوم، وصورة البلد، هما مسرح انفجار المرفأ.. الذي يختصر أحوالاً برمّتها. لا ألوم محمد رمضان على خفّته واستعراضيّته، فهذه خصاله التي لن تتغيّر. وأحسب أنّ الكثير من الغضب المتفجّر بسبب الصورة، هو غضب على أنفسنا، ورفض ضمنيّ لأن تكون صورتنا في ذهن الآخر هي صورة انفجار المرفأ، الذي صار كنايةً عن انفجار بلادٍ بكاملها..

إقرأ أيضاً: نهايةٌ لا يستحقّها مسيحيّو لبنان!

ثمّة وطن بكامله انفجر، فيما الجهنّميّ يتسلّى بحقوق المسيحيين…

إطمئن سيّدي القائد الأعلى لمحور جهنّم… قد يبقى في لبنان حفنة من المسيحيين والمسلمين فقط، وهم ممّن لم تتيسّر لهم سبل الهجرة، أو قرّروا البقاء لأسباب منافية للمنطق.. فاللبناني بحاجة إلى سبب كي يبقى لا لسبب كي يهاجر!

قد تنجح في معركة حقوق المسيحيين.. وسيصفّق لك المسيحيون ممّن يؤيّدونك… ولكن من المَهاجِر.

هكذا كان ليحلّ بالمسيحيين والمسلمين في مصر، لولا رجل كالبابا تواضروس الثاني…

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…