صبر السُنّة نفد… ولكن؟

لا يسمع أنين الناس ولا يرى دموعهم. لا يكترث لمشاهد طوابير الذلّ والعار، ولا يتحسّب لمخاطر انفجار اجتماعي بدأت ملامحه في الظهور. لا يتأثّر بالعزلة الخانقة التي صارت إليها البلاد، ولا يهمّه القول إنّه أساء الأمانة الوطنيّة، وحنث بالقسم، وساهم في توالد الأزمات إلى أن حصل الانهيار الكبير.

الجنرال نفسه مطمئنّة. سيل الإنجازات المحقّقة وخطط التوريث المنجزة لا تترك مجالاً للقلق. ينام مرتاح الضمير قرير العين، ومع طلوع كلّ شمس يصيح: “الأمر لي”.

الرجل الذي عطّل البلاد قرابة ثلاث سنوات من أجل تحقيق حلمه بالرئاسة، لن يستقيل. هذه الخطوة ليست موجودة في قاموس ميشال عون الذي لا يترك مناسبةً إلا ويزفّ إلينا بشرى بقائه حتى نهاية ولايته

على الجميع أن يفهم أين الإمرة، وخصوصاً رئيس الحكومة المكلّف. إنْ فَهِم وتجاوب، دخل جنّة الحكم تحت جناح الرئيس القويّ، وإلّا فليرحل وليأتِ غيره من أبناء الطائفة السنّيّة، كما أفتى أحد المساعدين الرئاسيّين المتنوّرين.

صحيح أنّ الجنرال يكنّ عداء مَرَضيّاً لهذه الطائفة التي لا تنتج إلّا متشدّدين، من صنف أولئك الذين أحرقوا أنفسهم في التليل، لكنّه مضطرّ إلى التعامل معها، إنّما بشروطه.

ما لا يدركه الجنرال أنّ غضب هذه الطائفة بلغ ذروته، وقدرتها على الصبر قاربت حدّها الأقصى، وأنّ مرجعيّاتها ونخبها وناسها ما عادوا قادرين على التسامح مع ما يعتبرونه مسلسل الاعتداءات الممنهجة على السُنّة، بدءاً من اغتيال رفيق الحريري، مروراً باحتلال بيروت وإطاحة حكومة سعد الحريري وتعطيل حكومة تمّام سلام، انتهاءً بكلّ البهلوانيّات الدستورية التي اعتمدها ساكن بعبدا، منذ اللحظة الأولى لتولّيه الرئاسة، من أجل تهميش موقع رئيس الوزراء وإسقاط وثيقة الوفاق الوطني ودستور الطائف.

هذا الافتئات على الدستور، وتعطيل كلّ محاولات تشكيل حكومة، نقلا النقاش داخل البيئة السنّيّة من حيّز الشكوى إلى مستوى البحث في مواجهة سياسية كبرى وفاصلة مع هذا العهد الذي يستخفّ بطائفة مؤسِّسَة للكيان اللبناني، ويُنكر عليها وزنها الوطني ودورها الرئيسيّ في إدارة الدولة.

سيناريو المواجهة الأكثر تداولاً اليوم، سبق أن ورد بصيغ متنوّعة عبر سلسلة من المقالات القيّمة في موقع “أساس” لعدد من أصحاب الفكر، وفي مقدّمهم الدكتور رضوان السيّد الذي اقترح تصوّراً يقضي بأن يعتذر الرئيس نجيب ميقاتي عن إكمال مهمّته، على أن تتداعى قيادات الطائفة السنّيّة وفاعليّاتها إلى اجتماع موسّع في دار الفتوى يعلن:

– أنّ السُنّة لن يرشّحوا أحداً لرئاسة الحكومة ما دام ميشال عون رئيساً.

– الدعوة إلى “عصيان سياسي” تشارك فيه الأطراف الوطنيّة من أجل عزل الرئيس أو دفعه إلى الاستقالة.

– دعوة العرب والمجتمع الدولي إلى تنفيذ القرارات الدولية الخاصّة بلبنان.

ميشال عون ليس المشكلة الأساسية في بلدنا، بل تفصيل صغير في المشهد الواسع. هو ليس سوى مقاول من الباطن، لاهث وراء كسب صغير ومباشر وسريع، في مشروع كبير يقف على رأسه متعهّد محلّيّ محنّك، هدفه تغيير وجه لبنان وإلحاقه بإمبراطورية الوليّ الفقيه

هذا السيناريو الطموح يطرح إشكاليّتين لم تغيبا بالتأكيد عن ذهن الكاتب. إشكاليّتان يتعيّن التبصّر فيهما، كي لا يتحوّل التحرّك المرتقب إلى طلقة طائشة أو خطوة في الفراغ.

1- الأولى هي أنّ أيّ اجتماع ذي طابع مذهبي، لا يكون مفتوحاً على أفق وطنيّ عام، يثير على الفور ردود فعل مذهبيّة مقابلة. هذا بديهيّ في بلد مثل لبنان، فكيف إذا كان التحرّك يستهدف مَن عيّن نفسه “بطريركاً سياسياً” لمسيحيّي الشرق، واحترف وأتباعه التحريض المذهبيّ والطائفيّ، وأتقن لعب دور الضحيّة في معركة مع “شرّير إسلاميّ سُنّي” موهوم.

الأمثلة على ذلك لا تُحصى. تحضُر على الدوام لتعبئة الأتباع وشيطنة الخصوم. ألم يقُل داعية “المسيحية المشرقية” جبران باسيل في شهر آب 2014 إنّ هناك “داعشيّة سياسيّة” تسعى إلى تصفية المسيحيين “في الموصل العراقية وكَسَب السورية وقصر بعبدا”. ألم يعلن المرشّح الرئاسي ميشال عون في تموز 2015 أنّ المسيحيّين في لبنان “معرّضون لخطر وجودي، وهم مدعوون إمّا للسكوت والاضمحلال أو للتهجير بالسيف”، وأنّ خصومهم “يحاولون وضع اليد على مواقع المسيحيّين في الدولة لكي يحزموا حقائبهم ويرحلوا”.

استباقاً لهذا النوع من التهييج الطائفي المتوقّع، قد يكون من المفيد أن تبادر القوى الوازنة في البيئة السنّيّة إلى فتح قنوات تواصل مع جميع القوى السياسية، وبخاصة المسيحية منها، لجعل أيّ موقف يصدر عن اجتماع دار الفتوى محصّناً بموقف وطني هدفه المصلحة العامّة، وينزع عنه تهمة الاستهداف السنّيّ للموارنة.

2- الإشكاليّة الثانية تتعلّق بجدوى الدعوة إلى عزل عون أو اعتزاله.

– أوّلاً، لن يكون مفاجئاً إذا وضعت البطريركية المارونية خطّاً أحمر لحماية الموقع الماروني الأول، وقد سبق أن حدث ذلك مع إميل لحود. في هذه الحال ستكون دار الفتوى في مواجهة بكركي.

– ثانياً، يعرف جميع اللبنانيين أنّ الرجل، الذي عطّل البلاد قرابة ثلاث سنوات من أجل تحقيق حلمه بالرئاسة، لن يستقيل. هذه الخطوة ليست موجودة في قاموس ميشال عون الذي لا يترك مناسبةً إلا ويزفّ إلينا بشرى بقائه حتى نهاية ولايته. باقٍ حتّى لو تحوّل نصف الشعب اللبناني إلى متسوّلين، ونصفه الثاني إلى مهاجرين، وحتّى لو صار لبنان كلّه ركاماً فوق ركام.

إزاء هاتين الحقيقتين يصير من المنطقي التساؤل: لماذا إذن إضاعة الجهد والوقت على هذا الشعار الذي لن يتحقّق؟ أليس من الأجدى التركيز على التعامل مع المعضلة الأصلية التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه، والتي يشكّل أداء رئيس الجمهورية وتيّاره عارضاً فرعيّاً من عوارضها.

ميشال عون ليس المشكلة الأساسية في بلدنا، بل تفصيل صغير في المشهد الواسع. هو ليس سوى مقاول من الباطن، لاهث وراء كسب صغير ومباشر وسريع، في مشروع كبير يقف على رأسه متعهّد محلّيّ محنّك، هدفه تغيير وجه لبنان وإلحاقه بإمبراطورية الوليّ الفقيه التي لا تني تتمدّد في بلاد العرب.

في اتجاه هذا المشروع يجب أن تُوجَّه سهام المعركة السياسية، وإلّا فإنّ “العصيان” الطائفي المقترح معرّضٌ، لأسباب عديدة، منها ما يتعلّق بالوضع داخل “البيت السنّيّ”، ومنها ما يعود إلى القطيعة والعلاقات المتوتّرة بين القوى الوطنية السيادية، لأن يتحوّل إلى مجرّد “حَرَد” سنّيّ.

لقد أصاب الأستاذ قاسم يوسف حين كتب في “أساس” أن لا دولة في لبنان من دون السُنّة. ولكنّ مَن قال إنّ تحالف الأقلّيّات يريد دولة حقيقية فيها دور وازن للسُنّة. أليس العراق وسوريا نموذجين للعبث الإيراني بركائز الدولة الوطنيّة وتوازناتها، ولتهميش المكوّن العربي السنّيّ.

لم يعد الوضع اللبناني الكارثي يسمح بإضاعة الوقت على نكد ميشال عون أو ترّهات سليم جريصاتي الدستورية. لقد آن أوان الابتعاد عن اللغة الملتوية، وفتح الملف الحقيقي على مصراعيه، تحت عنوان واحد أوحد هو إعادة الاعتبار إلى الدستور ناظماً للحياة السياسية بين اللبنانيين.

إعادة الاعتبار إلى الدستور تعني تثبيت سيادة لبنان على أرضه، وانتمائه إلى محيطه العربي. وتعني قيام دولة القانون، وحصر السلاح ومهمّة حماية الوطن والمواطنين بالقوى المسلّحة الشرعية دون سواها.

شعارات تتكرّر منذ 2015؟

نعم.

لكنّها المشروع القديم – الجديد الذي يجب ألّا نكفّ عن طرحه والسعي إليه. هي ليست معركة السنّة وحدهم، ولو أنّ ما نالهم حتى الآن من تحالف “مار مخايل” يفوق بكثير ما نال غيرهم. هي معركة كلّ القوى والمرجعيّات الوطنيّة السياديّة، وبينها بطريرك الموارنة الذي طرح أفكاراً جريئة ومتقدّمة.

إقرأ أيضاً: المطلب الوطنيّ الذي لا مطلب فوقه: إزالة الرئيس

لقد سئم اللبنانيون العيش على إيقاع “إطلالات” السيّد لكي يعرفوا ما يخبِّئه لهم الغد، وما عاد السلاح يخيفهم أمام الهول اليوميّ الذي يعيشون، والذلّ الذي يكابدون، والعزلة التي سبّبها لهم هذا السلاح ومصادرة حزب الله للسياسة الخارجية اللبنانية.

صار الجميع في قعر الهاوية، ولم يعُد من مبرّر لتأجيل إشهار المواجهة، السياسية السلمية الواسعة، مع أصحاب المشروع الإيراني. ويجب أن يتركّز النقاش اليوم على طبيعة هذه المواجهة وأساليبها واحتمالات نجاحها أو فشلها.

إقرأ أيضاً

هل يسير لبنان على خطى غزّة.. نحو التدمير الكامل؟

لا إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، أو أيّ إدارة يمكن أن تخلفها، ولا أيّ حكومة إسرائيلية، بقي رئيسها بنيامين نتنياهو أو رحل، يمكن أن تقبل…

الانتخابات التركيّة: معركة إردوغان – إربكان أيضاً؟

إلى أين ستتّجه أنظار الناخب التركي مساء الأحد المقبل، وهو يتابع نتائج الانتخابات التركيّة المحلّية عبر الشاشات؟ نحو أرقام وحصّة حزب “الرفاه من جديد” الذي…

الجماعة الإسلاميّة: أوقفوا المخالفة الشرعيّة

مثَلُ الأمين العامّ للجماعة الإسلامية الشيخ محمد طقّوش كمثل عبد الله بن مرثد الثقفيّ. الذي عمد إلى قطع حبال الجسر بسيفه في موقعة الجسر بين…

هجوم موسكو: بوتين فاز بـ11 أيلول روسي

ربّما المجزرة، التي نُفّذت في مجمع “كروكوس سيتي هول” الموسكوفي، هي الجرح الأكبر الذي يصيب فلاديمير بوتين منذ جلوسه في الكرملين سيّداً مطلقاً لروسيا. لكنّ…