اليهود والصهيونيّة

في مخيّلة الكثيرين يوجد تلازم بين اليهودية والصهيونية. وهذا الاعتقاد صحيح إلى حدّ كبير. لكنّ العلاقة بينهما أكثر تعقيداً. فالحركة الصهيونية، في نشأتها الأولى، قامت على أكتاف اليهود ومن أجلهم. ويعود انطلاق الحركة الصهيونية إلى ثلاثة عوامل رئيسة:

العامل الأول: بعكس العالم الإسلامي الذي احتضن اليهود، حتى وإن انعدمت المساواة بشكل مطلق، فإنّ العالم الأوروبي مارس صنوفاً من الاضطهاد والظلم ضدّ اليهود. والسبب في ذلك يعود إلى الاعتقاد السائد بأنّ اليهود هم قتلة المسيح، وأنّ اليهود يستخدمون دماء الأطفال المسيحيين في طقوسهم الدينية. ولكنّ الكاتبين آلن وهيلن كتلر في كتابهما الرائع “اليهودي كحليف للمسلم”، رَأَيَا أنّ أصول المعاداة للسامية ترجع إلى العصور الوسطى. فقد كان المسيحيون الأوروبيون في تلك العصور يرون اليهودي حليفاً للمسلم في شبه الجزيرة الإيبيرية أثناء الحكم الإسلامي.

لم تكن الحركة الصهيونية غريبة عمّا يموج في أوروبا من حركات قومية وإثنية، وحركات استيطان واستعمار. وكما وجد الاستعمار الأوروبي مبرّراً لوجوده في بلدان العالم، وجدت الحركة الصهيونية مبرّراً لاستيطان فلسطين

العامل الثاني: يعود إلى تصاعد الحركات القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر. وقد انبلجت عدّة قوميات إثنية في أوروبا، مثل القومية اليونانية والثورة الصربية ضد الدولة العثمانية والثورة المجرية ضد الحكم النمساوي. وتوحّدت ألمانيا وإيطاليا حول هوية وطنية واحدة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد برزت الحركة الصهيونية تباعاً كحركة قومية يهودية ضدّ حقبة من العنصرية والاضطهاد من قبل الأغلبية المسيحية.

ولأنّ اليهود مشتّتون بين عدّة دول في العالم، لم يكن من رقعة جغرافية لإقامة دولة وطنية تحمي حقوقهم المدنية والسياسية. وقد رأوا في فلسطين جغرافيا تستطيع أن توحّد الشتات اليهودي.

هنا يبرز العامل الثالث في ظهور الحركة الصهيونية. فقد انتشرت في أوروبا الحركات الاستعمارية لتقاسم جنوب وشرق العالم من إفريقيا إلى آسيا تحت مسمّيات جلب الحضارة والتقدّم للشعوب البدائية وغير ذلك من المسمّيات.

وقد عقد مؤتمر برلين في عام 1884 لتقسيم إفريقيا بين دول أوروبية عديدة. ونشطت حركات الاستعمار والاستيطان في إفريقيا وآسيا، وخاصة أنّ استعمار العالم الجديد المتمثّل بالأميركيّتين أُغلق إلى غير رجعة. بل إنّ دول أميركا الجنوبية استقلّت عن إسبانيا والبرتغال في ذاك القرن.  

ولم تكن الحركة الصهيونية غريبة عمّا يموج في أوروبا من حركات قومية وإثنية، وحركات استيطان واستعمار. وكما وجد الاستعمار الأوروبي مبرّراً لوجوده في بلدان العالم، وجدت الحركة الصهيونية مبرّراً لاستيطان فلسطين بدواعي أرض الميعاد وأرض الأسلاف اليهود، فزرعت في مخيّلة بعض اليهود أسطورة أنّ فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

وعُقِد أوّل مؤتمر للحركة الصهيونية في عام 1897 في مدينة بازل، ووفد إليه عدد كبير من اليهود من عدّة مناطق في أوروبا. تزعّم تيودور هرتزل هذا المؤتمر ثمّ الحركة الصهيونية، وقال: “في مدينة بازل فكّرت في دولة اليهود. لو قلت هذه الفكرة بصوت عالٍ اليوم لقوبلت باستهزاء عالمي. في غضون خمس سنوات، ربّما خمسين سنة، سيستوعب كل الناس هذه الفكرة”.

والجدير بالذكر أنّ كثيراً من النخبة اليهودية كان متماهياً مع جنسيّاته الأوروبية المتعدّدة، ومن ضمنهم هرتزل. ولكنّ اشتداد المعاداة للسامية وبروز الحركات القومية وحركات الاستعمار الأوروبي غيّرا من توجّه هذا الصحافي والكاتب من مدينة فيينا. يُذكَر أنّ واقعة محاكمة الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الذي اُتُّهم زوراً وبطلاناً بالخيانة العظمى، أقنعت هرتزل، الذي كان يغطّي المحاكمة، بأنّ اليهود بحاجة إلى وطن قومي أسوة بكل القوميات في العالم.

بعكس العالم الإسلامي الذي احتضن اليهود، حتى وإن انعدمت المساواة بشكل مطلق، فإنّ العالم الأوروبي مارس صنوفاً من الاضطهاد والظلم ضدّ اليهود

وكانت الحركة الصهيونية حركة أقلّية داخل المجتمعات اليهودية بكلّ أطيافها. وكان اليهود الأوروبيون خارجين من مرحلة التحرّر من القيود المفروضة عليهم. وقد قامت عدّة دول أوروبية بإلغاء القوانين العنصرية ضدّهم، فبدأ اندماج كثير منهم في مجتمعاتهم. وأسهمت العلمانية وعصر الأنوار في المجتمعات الأوروبية في تغيير النظرة إلى الأقليّات اليهودية التي انخرطت في هذا التوجّه. ورأَى الكثير من اليهود أنّ الصهيونية هي عقبة في وجه الاندماج اليهودي في مجتمعه، خاصة بعدما لاح تحرّر الجاليات اليهودية في الأفق.

وقد عارض كثير من المتديّنين اليهود فكرة القومية العملانية اليهودية المتمثّلة في الصهيونية. وبالنسبة إلى اليهود الأرثوذكس كانت فكرة العودة منوطة بعودة المسيح المخلّص وليست مرتبطة بحركة علمانية. ولا تزال مجموعة من اليهود الحريدين، وتُدعى ناطوري كارتا (حراس المدينة)، تعادي الصهيونية وإسرائيل.

لكنّ ظروف الحرب العالمية الثانية ومحرقة اليهود، أو الهولوكوست، التي أباد فيها النظام النازي الألماني حوالي ستة ملايين يهودي، قلبت المعادلة لمصلحة الصهيونية. فكثير ممّن كانوا على قناعة بالانصهار في المجتمعات الأوروبية، كأفراد يهود منتمين إلى أقطارهم، اعتنقوا الصهيونية كبديل للاندماج والتنوير والعلمانية. وأصبحت الحركة الصهيونية التوجّه السياسي لأغلبيّة اليهود. وزادت التطوّرات من الحاجة إلى تشكيل كيان سياسي يهودي في فلسطين، وهو مطلب ساندته كلّ القوى الكبرى من دون اعتبار للسكّان الأصليين من الفلسطينيين العرب.

إقرأ أيضاً: الحريديم: دواعش اليهود

لا تزال العلاقة بين اليهود والصهيونية علاقة معقّدة على الرغم من أنّ معظم اليهود في العالم متعاطفون ومساندون للدولة اليهودية، إلا أنّ الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تذكّر اليهود بما عانوه في الشتات.

كاتب ومفكّر إماراتيّ.

*أستاذ ملحق على كليّة الدفاع الوطني الإماراتية.

مستشار سياسيّ سابق في القيادة العامّة للقوّات المسلّحة الإماراتية.

مدرّس مساعد في جامعة ميتشيغان – أن آربر.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…