أزمة الأهواز*: الظلم المتجذّر.. والتخلّي العربي والدولي

وأنا أتابع ما يدور في إقليم خوزستان من أحداث وتظاهرات يقوم بها أبناء الأهواز العرب، ويحاول النظام الإيراني تأطير أسبابها في أزمة المياه التي يعانيها هذا الإقليم، عادت بي الذاكرة إلى عام 1979 والزيارة التاريخية التي قام بها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى هذا الإقليم، وكيف خرج أبناء الأهواز العرب وغير العرب لاستقباله برفقة نجل الإمام الخميني السيد أحمد الذي أصرّ أن يكون إلى جانبه في زيارته التاريخية لإيران بعد الثورة، لِما يمكن أن تلعبه هذه الزيارة من دور في تكريس الصورة التي سعى الخميني إليها وأرادها للثورة الإيرانية الإسلامية التي ترى في الوسط العربي الإسلامي مجالها الحيوي وأحد روافد شرعيّتها الثورية والإسلامية من البوّابة الفلسطينية.

الأشقاء العرب والمجتمع الدولي جميعاً على استعداد لعقد تسويات مع طهران، والتضحية بمطالب وحقوق الأهوازيين في العدالة والمساواة في إطار لامركزية إدارية معزّزة أو موسّعة تُعطي لأبناء الإقليم الحدّ الأدنى من حقوقهم بالمقارنة مع حجم ما يقدّمه الإقليم

في كتابه “الإمام الخميني والقضية الفلسطينية” الصادر عام 1979، بُعَيد زيارة عرفات لإيران، الذي يتضمّن نصوص الرسائل المتبادلة بين الخميني وعرفات قبل الانتصار، يصف السيد هاني فحص “الأهواز”، التي زارها برفقة عرفات، “… إلى الأهواز.. حيث يطلع النفط منها ولا يمرّ فيها… لا يمرّ بإيران، وحيث الظلم الاجتماعي يبلغ ذروته..”. وصفٌ إذا حجبنا تاريخ تدوينه وكتابته، قد يعتري القارئ شكٌّ بأنّ هاني فحص يقف شاهداً على ما تعانيه الأهواز هذه الأيام، ويكتب عنها، وكأنّ التاريخ في الأهواز لم يتحرّك، ومعاناة الأمس لا تزال مستمرّة. إنّ الخيبة قد تبدو عميقة لأنّ وعود الثورة، التي أَمِل أهالي هذا الإقليم أن يأتي اليوم الذي تتحقّق فيه، تحوّلت إلى كابوس يعيشه الأهالي، وإنّ الكلام الذي وصف فيه معاناة الأهوازيين في أيام العهد الامبراطوري الشاهنشاهي لا تزال مقيمة في واقعهم، وإنّ قدرهم هو تغيير اسم المعاناة واستبدال ظلم بآخر أشدّ مرارة لأنّه يأتي من الجهة – الثورة التي دفعوا دماً من أجلها ودفاعاً عن أهدافها.

يمكن القول إنّ خوزستان أصبحت الامتحان التاريخي الصعب أمام النظام الذي أقامته الثورة الإسلامية ووعودها بالعدل والمساواة ورفع الظلم المتجذّر في هذه المنطقة على وجه التحديد. وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على التغيير الذي أمسكت هذه البلاد بمفاتيح انتصاره عندما أغلقت أقفال الذهب الأسود التي شكّلت شرايين حياة النظام الامبراطوري، معلنة سقوطه، خوزستان لم تبقَ كما هي، فقد خرجت من مثالية الحلم إلى واقعية الحقيقة، ولعلّ ما تشهده من تحرّكات دورية مطلبية معيشية وسياسية يشكّل تعبيراً ومؤشّراً إلى هذا التغيير وهذا التحوّل، الذي لم يعد يتردّد في رفع صوته والقول بأنّ تراكم الإحباطات أنتج هذا الانفجار.

الحقيقة المرّة، التي قد يدركها القليل من الناشطين السياسيين العرب من أبناء الأهواز، هي أنّ قضيّتهم تقع بين طرفين لا يريدان الاعتراف بهم. فلا النظام الإيراني، على اختلاف هويّاته السياسية والدينية، على استعداد لاستيعاب مطالبهم وتوسيع هامش مشاركتهم السياسية والإدارية في الدولة والنظام. وهو يتعامل مع أيّ حراك أو مطالبات كتهديد أمني وقومي انفصالي يهدّد وحدة الأراضي الإيرانية.  ولا الأشقّاء العرب على استعداد لتبنّي قضيّتهم في سياق معركتهم المفتوحة مع النظام الإيراني الذي يعتبرونه تهديداً وجوديّاً لدولهم ومجتمعاتهم. في حين يلتقي المجتمع الدولي مع الأشقاء العرب على عدم تجاوز حدود الضغط على النظام المركزي الإيراني، ويتعامل مع هذه التحرّكات كورقة وظيفية يستخدمها للضغط على طهران في حدود لا تؤثّر على مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية مع النظام والدولة الإيرانيين. والأشقاء العرب والمجتمع الدولي جميعاً على استعداد لعقد تسويات مع طهران، والتضحية بمطالب وحقوق الأهوازيين في العدالة والمساواة في إطار لامركزية إدارية معزّزة أو موسّعة تُعطي لأبناء الإقليم الحدّ الأدنى من حقوقهم بالمقارنة مع حجم ما يقدّمه الإقليم.

الحقيقة المرّة، التي قد يدركها القليل من الناشطين السياسيين العرب من أبناء الأهواز، هي أنّ قضيّتهم تقع بين طرفين لا يريدان الاعتراف بهم

يجب عدم التعامل مع الأحداث التي تشهدها الأهواز وإقليم خوزستان هذه الأيام كمسألة عابرة نتيجة أزمة شحّ المياه والجفاف، بل من منطلق أنّهم شعب منسيّ من محيطهم القريب ومحيطهم الأبعد، وأنّ صرختهم هي إعلان وجود وعودة في محاولة لتصحيح المسارات التي أدواتها المباشرة هي المطالب اليومية والحياتية وحقّ الحياة والماء. وهذا لا يعني أنّ هذه الحاجات هي نهاية الأمر، ففي مقابل عطشهم إلى الماء الذي يعانونه، يعلنون أنّ عطشهم السياسي والبحث عن العدالة والمساواة أشدّ فتكاً بهم، لأنّ هذا العطش مزمن ويتجذّر مع الأيام، وهم في هذا العطش لا يختلفون عن مكوّنات أخرى في إيران. ولكن قُدِّر لهم أن يكونوا المكوّن الذي تمظهرت فيه هذه المطالب، وكانت أزمة المياه المدخل إلى الانفجار.

قد لا تكون الصورة النهائية لِما يجب أن تكون عليه الأمور قد تبلورت لدى أبناء الأهواز العرب، ليس بسبب عدم قدرتهم على الخروج إلى الشارع، وقد خرجوا وحوّلوا شوارع المدينة من أماكن للتردّد إلى مسرح للمطالبة بحقوقهم السياسية والحياتية، بل بسبب عدم نضوج “الكتلة الحاملة” لمشروع واضح وواقعي بين النخب الأهوازية التي تعاني من التفرّق والتنافس والتجاذب بين واقعية تسعى إلى خرق جدار تصلّب النظام للوصول إلى تطبيق الحقوق الدستورية ولامركزية إدارية قد تنتهي بفدرالية لا تقلق المركز، وبين ثورية تدعو إلى العمل المسلّح والانفصال، وتقدِّم خدمة مجانية للنظام والسلطة المركزية في اللجوء إلى خيار التعامل الأمني مع أيّ حراك، كما حدث ويحدث في هذه الأيام، وتسمح للمرشد الأعلى أن يؤطّر الأحداث في خانة الإهمال المزمن للمطالب المعيشية لأبناء الأهواز، وأن يُسقِط حقوقهم السياسية ومطالبهم بالعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات.

أن يتحوّل الشارع الأهوازي إلى مسرح للمطالب السياسية، عبّرت عنها الشعارات التي رفعها المتظاهرون وتجاوزوا فيها المطالب المباشرة بالماء والشرب، يعني أنّ التعامل معه يجب أن يكون بالمستوى نفسه، وقد يفرض على النظام أن يوسّع دائرة المعالجات لتشمل المكوّنات الأخرى وبؤر الانفجار المحتمل في أماكن أخرى. فالتظاهرات التي تشهدها الأهواز لم تأخذ بُعْدها السياسي لكونها تحدث في جغرافيا محدّدة من إيران، بل من كونها فضحت أزمة مزمنة تمّ التعامي عنها، ووضعتها أمام أعين الجميع، وبات من الصعب التغاضي عنها وعدم سماع صوتها، بما هي تحدٍّ سياسي جديد للمؤسّستين الرسمية والعسكرية الأمنيّة، فإمّا أن تنجح في اختبار التعامل مع هذه الأزمة أو أن تغرق في لجّتها وما فيها من تداعيات. فهل يبقى النفط يمرّ من الأهواز ولا يتوقّف فيها، أم يغيّر جهته ليرفد شرايينها التي تعاني من حرمان مزمن ليس فقط في التنمية والمطالب المعيشية، بل حتى السياسية والعدالة؟

إقرأ أيضاً: إيران: رئيس “اقتصادي” داخلياً.. متشدّد خارجياً

*تؤكد الغالبية العظمى من المراجع والمصادر التاريخية وأمهات الكتب المتوفرة بأن الإقليم كان يسمى “الأهواز” في أغلب فتراته التاريخية. وجاء في القاموس المحيط، أنّ الأهواز هي: تسع كور بين البصرة وفارس، لكل منها اسم ويجمعهن الأهواز. كما يذكر القلقشندي في كتابه نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، أن “يوم الأهواز، وفيه تغلب العرب على الفرس، وقع عام 17 للهجرة، والأهواز: إقليم عربي واسع يتكون من سبع كور بين البصرة وفارس”. دخلت تسمية الأحواز في القاموس السياسي لدى التنظيمات الأهوازية منذ بداية السبعينيات، ومع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة في العراق. وتمّ الترويج للتسمية على يد الباحث العراقي، علي نعمة الحلو، الذي ألّف سلسلة كتب تحت عنوان “الأحواز” آخذاً ما أورده ياقوت الحموي لاختيار مسمى الأحواز، بدلا من الأهواز التاريخية. ومن ثم تبنّت “الجبهة الشعبية لتحرير الأحواز- عربستان” هذه التسمية لدى تأسيسها في العام 1971.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…