أفغانستان وسط “البوزكاشي” الإقليميّ

2021-07-14

أفغانستان وسط “البوزكاشي” الإقليميّ

مدة القراءة 8 د.

ينضمّ إلى أسرة “أساس” بدءاً من اليوم الأكاديمي والكاتب التركي المخضرم الدكتور سمير صالحة، في مقال أسبوعي يتناول ملفّات المنطقة وتحوّلاتها السياسية. وهو أحد كبار الخبراء بشؤونها. وسيكون إضافة كبيرة ومهمّة إلى فريق “أساس”.

 

للمرّة الثانية خلال أسبوع يقول وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إنّ “بقاء القوات التركية في أفغانستان لن يكون من دون شروط. إذا ما تمّ الوفاء بتعهّدات الدعم السياسي والأمني واللوجستي، يمكننا البقاء في مطار حميد كرزاي الدولي”.

وللمرّة الثانية خلال أسبوع أيضاً، تحذّر حركة طالبان أنقرة من إبقاء قوات في أفغانستان لحماية مطار كابول بعد إنجاز انسحاب القوات الأجنبية المرتقب، معتبرةً أنّ “قرار القادة الأتراك ليس حكيماً. إنّه انتهاك لسيادتنا ولوحدة وسلامة أراضينا. وهو مخالف لمصالحنا الوطنية.. إبقاء قوات أجنبية في وطننا من قبل أيّ دولة، ومهما كانت الذريعة، هو احتلال، والمحتلّون سيُعاملون على هذا الأساس”.

غالبيّة التوقّعات وتقديرات الموقف تتحدّث عن احتمال سقوط العاصمة الأفغانية أو استسلامها من دون قتال لقوات طالبان خلال أيام

فلماذا تواصل أنقرة التفاوض مع الإدارة الأميركية، التي قرّرت المغادرة، في مسألة قد تتحوّل إلى مصيدة في مستنقع أفغانستان الذي نجحت باحترافية ودراية عالية في تجنّبه حتى اليوم؟

أوجز المتحدّث باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي، المشهد القائم اليوم بقوله: “نحن ممتنّون للعرض التركي، لكنّ العمل لا يزال مستمرّاً بخصوص التفاصيل. فهناك الكثير من الأمور التي ينبغي القيام بها. طلبت أنقرة الحصول على دعم من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، ونحن نبحث ما يمكن فعله”.

بدأت تفاصيل “الخدعة الأميركية” في أفغانستان، كما تقول المعارضة التركية، تظهر إلى العلن. فلماذا تورِّط حكومة العدالة والتنمية تركيا في هذه المصيدة؟

لا انسحاب مشرّف لأنّ المهمّة لم تكتمل، ولا انتصار على الإرهاب أو انتقام لهجمات أيلول 2001، ولا معنى لاتفاق شباط 2020. فها هي واشنطن تعترف بالإمارة الإسلامية في كابول، وتقبل طالبان طرفاً مفاوضاً قبل أشهر من المغادرة.

مئات الجنود الأفغان، الذين درّبتهم واشنطن على حماية حدود بلادهم، يرمون أسلحتهم ويهربون إلى دول الجوار أمام هجمات طالبان المباغتة والسريعة. غالبيّة التوقّعات وتقديرات الموقف تتحدّث عن احتمال سقوط العاصمة الأفغانية أو استسلامها من دون قتال لقوات طالبان خلال أيام. هزيمة حلفاء أميركا في كابول ستكون أسرع من هزيمة حلفائها في سايغون الفيتنامية قبل عقود. طالبان تسيطر على الأرياف وتستعدّ لدخول المدن، وستدخل في مواجهة عسكرية إذا لم تحصل على ما تريد. تعرف واشنطن كلّ ذلك، وربّما هذا هو المخطّط البديل الذي يناسبها في آسيا، والهادف إلى إشعال حرب أفغانية جديدة ببعد إقليمي.

خطة الشراكة الأميركية المستدامة التي أعلنتها واشنطن، وتدير علاقاتها مع كابول، يصير هدفها يوماً بعد آخر جعل أفغانستان بؤرة توتّر إقليمي لإلهاء روسيا والصين والهند وإيران وتركيا بحروب لا تنتهي

تقول طالبان إنّ أميركا أدركت خطأها، وخسرت رهانها على حلفائها المحليين. بالمقابل، تعلن واشنطن أنّها أنجزت المهمّة. لكنّ الواقع يقول إنّه لا يمكن الاستخفاف بالخطوة الأميركية، واعتبارها هزيمة وتراجعاً إقليمياً أميركياً في آسيا.

فلماذا تُبقي أميركا 30 ألف جندي في اليابان وكوريا الجنوبية، وتقرّر التراجع في أفغانستان، إذا لم يكن الهدف الإعداد لفوضى إقليمية في منطقة دول الجوار الأفغاني؟

كان السؤال قبل أيّام عن الجهة التي ستتولّى إيقاف طالبان أمام أبواب العاصمة كابول ومنع دخولها المدينة؟ وتحوّل اليوم إلى سؤال آخر: لماذا ترغب أميركا في تسريع سيطرة طالبان على المدن الرئيسة في البلاد من دون أيّة مقاومة حقيقية تُذكر حتى الآن؟

تقرِّر أميركا تسريع انسحابها من أفغانستان، لكنّها تعلن أنّها ستواصل دعمها للحوار الوطني بين أطراف النزاع، وأنّها كلّفت مبعوثها في الملف الأفغاني زلماي خليل زاد تولّي المهمة التي بدأت في جولة إقليمية تشمل قطر وباكستان وكازاخستان. من سخرية القدر أنّ أميركا كانت في الثمانينيات تدعم تلامذة المدارس الدينية الذين كانوا نواة حركة طالبان لاحقاً، لمحاربة الروس ودفعهم نحو مغادرة أفغانستان، وأنّ روسيا تقف اليوم إلى جانب طالبان وتدعمهم في مشروع إخراج أميركا وحلفائها من البلاد.

إذاً لماذا تقرِّر أنقرة إبقاء قواتها أو لعب ورقة هذه الجزئيّة في مطار كابول أمام تراجع أميركي وهجمة روسية إيرانية صينية باتجاه المكان؟

استُبعدت إيران من المحادثات الأميركية مع طالبان، التي عُقِدت في العاصمة القطرية العام الماضي، وقادت إلى الاتفاق على انسحاب القوات الأميركية بعد عقدين من العمليّات في أفغانستان. لكنّ طهران ردّت بقطع الطريق على محاولة تركيا عقد مؤتمر وطني أفغاني، وذلك بتشجيع طالبان على عدم التوجّه إلى اسطنبول قبل شهرين.

طالبان تسيطر على الأرياف وتستعدّ لدخول المدن، وستدخل في مواجهة عسكرية إذا لم تحصل على ما تريد. تعرف واشنطن كلّ ذلك، وربّما هذا هو المخطّط البديل الذي يناسبها في آسيا، والهادف إلى إشعال حرب أفغانية جديدة ببعد إقليمي

لا تكتفي إيران بمراقبة الوضع في أفغانستان، بل تحرّكت سريعاً في أكثر من اتّجاه للتفاهم مع طالبان على المسار السياسي الجديد، ومحاولة المشاركة في ملء الفراغ عبر تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بالتنسيق مع اللاعبين المؤثّرين في الملف.

بقدر ما تخشى إيران موجات لجوء جديدة إلى أراضيها المجاورة لأفغانستان إذا ما اندلعت الحرب الأهلية مجدّداً، لا تريد تركيا أن تكون أمام أزمة مشابهة في استقبال الآلاف من الأفغان من الطاجيك والبشتون والتركمان الراغبين في الاستقرار داخل أراضيها أو العبور نحو أوروبا.

كان هدف واشنطن تحويل أفغانستان إلى قاعدة عسكرية أميركية متقدّمة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني، فهل قرّرت فتح الطريق أمام تركيا لتجلس نيابة عنها أمام الطاولة الروسية الإيرانية الصينية هناك؟ المفاجأة المحتملة هي فشل المشروع الأميركي ونجاح اللاعبين المعنيّين بالملف في صناعة تفاهمات إقليمية من دون أميركا، وعلى الرغم منها، بشراكة روسية صينية هندية إيرانية. ترصد أنقرة كلّ هذه التحرّكات، وتنسّق مع أكثر من لاعب على أكثر من جبهة لتجنيب أفغانستان سيناريو الكارثة. تريد أميركا تحويل تركيا إلى رأس حربة في مشروعها الأفغاني، وأنقرة لن ترتكب خطأ إعطائها هذه الفرصة.

تعلن طالبان أنّها جاهزة لتولّي مسؤولية الأمن فوق كلّ الأراضي الأفغانية، وللحوار مع الجميع، لكنّها تستثني الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة الأميركية، وتعلن رفضها بقاء أيّ أجنبي بعد أيلول المقبل، موعد انتهاء الانسحابات الأميركية. هي رسالة تعني أنقرة قبل غيرها. لا تريد طالبان الذهاب إلى أيّة طاولة حوار بقرار أميركي غربي، بل انطلاقاً من ثقلها السياسي والشعبي وسيطرتها على الأرض في أفغانستان. ذهبت إلى طهران وموسكو، ورفضت الذهاب إلى طاولة الحوار في أنقرة لتقول إنّها مستقلّة في اتخاذ قراراتها وتحديد سياساتها، وإنّها لن تهمل ما تقوله وتريده طهران وموسكو أيضاً.

من ناحيته، وصف الرئيس الأفغاني، أشرف غني، الحالةَ في بلاده بأنّها من أكثر المراحل الانتقالية تعقيداً على وجه الأرض. فهل هو موقف تمهيدي لانتهاج سياسة مختلفة في التعامل مع طالبان، وإبلاغ واشنطن أنّه سيغادر بيت الطاعة والبحث عن خيارات وبدائل إقليمية أوسع لإنقاذ بلاده؟

تُظهر المؤشّرات أنّه يريد أن يقول لحلفائه في واشنطن إنّ باكستان والهند وإيران وتركيا وروسيا والصين، لهم حساباتهم ونفوذهم في الملف، وهي كلّها بين الدول التي ستجعل الوضع الأفغاني أكثر حلحلةً أو تعقيداً في المستقبل. قد تنتهي الحرب في أفغانستان بالنسبة إلى القوات الأميركية، لكنّها ستكون البداية لانفجار أمني سياسي أكبر يقلب كل التوازنات الإقليمية في جنوب آسيا رأساً على عقب.

“البوزكاشي” هي ملحمة قديمة في آسيا تجمع الشجاعة والبطولة والفروسية والمخاطرة، وتحوّلت إلى رياضة شعبية أفغانية قبل 8 قرون. يتبارى خلالها فريقان من الخيّالة على حمل جيفة حيوان ميت، والتنقّل بها في ساحة واسعة تنتهي بوضع الجيفة داخل دائرة محدّدة وسط الملعب. شجاعة الفرسان وقوّة الحصان وقدرتهم على تحمّل الركلات والضربات لإيصال الجيفة إلى المكان المطلوب هي أبرز معايير الفوز. منعت طالبان هذه الرياضة سنوات لأسباب دينية واجتماعية قبل أن يُسمح بممارستها مجدّداً في البلاد. ها هي طالبان تعاود السيطرة على غالبية الأراضي الأفغانية، لكنّ مشكلتها أنّ البوزكاشي إقليمية هذه المرّة، إذ تضمّ أكثر من فارس عنيد وصلب يتطلّع إلى ملء الفراغ الذي تركته أميركا التي اختارت المغادرة على عجل.

إقرأ أيضاً: عودة طالبان: إرباك إيراني.. وقلق روسي وصيني

التقارير الاستخبارية الأميركية نفسها هي التي ذكرت أنّ كابول العاصمة ربّما تسقط خلال ستة أشهر مع فشل الجيش الأفغاني في صدّ هجمات قوات طالبان، واحتمال انهياره سريعاً، وأنّ الانسحابات قد تواكبها حرب أهلية جديدة تندلع هناك. المنافسة الإقليمية ستكون على مليارات الدولارات من الموارد الطبيعية في أفغانستان، وأبطالها كُثُر، والمواجهة لا تزال في بدايتها، فهل غادرت واشنطن الساحة فعلاً؟

يبدو أنّ خطة الشراكة الأميركية المستدامة التي أعلنتها واشنطن، وتدير علاقاتها مع كابول، يصير هدفها يوماً بعد آخر جعل أفغانستان بؤرة توتّر إقليمي لإلهاء روسيا والصين والهند وإيران وتركيا بحروب لا تنتهي.

 

* أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.

إقرأ أيضاً

عراضة “الجماعة” في عكّار.. ومرحلة ما بعد حرب غزّة

بعد العراضة المسلّحة لـ”الجماعة الإسلاميّة” في منطقة عكار الشمالية، بدأت تظهر ملامح مرحلة ما بعد حرب غزّة في لبنان. تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت…

لا عزاء للمساكين

“لم أغسل دمي من خبز أعدائي  ولكن كُلّما مرّت خُطَايَ على طريقٍ فرّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ   كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ فالتجأتُ إلى رصيف الحلم…

“أخوة يوسف”* أمام معضلة خط الحرير العراقيّ

عاديّ أن يقلق البعض على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة للعراق، أمام مشهد توقيع مذكّرة تفاهم رباعية للتنسيق والتعاون ذات طابع استراتيجي…

الجماعة الإسلامية إلى أين؟

عندما أنشئت الجماعة الإسلامية في ستينات القرن الماضي (وتمّ وقتها الترخيص للحزب الشيوعي وكان وزير الداخلية كمال جنبلاط)، كانت تهدف إلى المحبة والتسامح والعيش المشترك…