الصلاة البابويّة وخواء السياسة اللبنانيّة

صحيحٌ أنّ البابا فرنسيس أعلن أنّ لقاءه مع “قادة الكنائس” في لبنان هو لـ”الصلاة والتأمّل من أجل لبنان”، لكنّ اللغة الفاتيكانية المتحفّظة جدّاً لا تحجب المعنى السياسي لهذا اللقاء. والدليل أنّ البابا فاجأ الجميع بأنّه دعا إلى عدم “ترك لبنان رهينة مَن يسعون وراء مصالحهم الخاصّة، وكفى استخدامه لمصالح خارجية”. وتوجّه إلى اللبنانيين بالقول: “لا تيأسوا ولا تفقدوا الروح، بل ابحثوا في جذور تاريخكم عن الرجاء لتزهروا من جديد”.

الأكيد أنّ الفاتيكان يعمل بصمت منذ مدّة لجعل لبنان حاضراً في قائمة الاهتمامات الدّولية، ولا سيّما بعد انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي فتح الباب أمام عودة التعاون الأميركي – الأوروبي بشأن ملفّات المنطقة، بعدما تلقّى هذا التعاون خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب كدمات قويّة. والأكيد أيضاً أنّ الملف اللبناني حضر في اللقاء الذي جمع البابا مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الاثنين الماضي، والذي امتدّ لنحو 40 دقيقة. فلم تكد تمرّ 48 ساعة على هذا اللقاء حتّى اجتمع بلينكن مع نظيريْه الفرنسي جان إيف لودريان والسعودي فيصل بن فرحان للتداول “خصّيصاً” في الملف اللبناني. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يعلن بلينكن بنفسه عن هذا اللقاء في “تغريدة” على موقع “تويتر”، وإن لم تحتوِ على مضمون سياسي لافت، إذ كرّرت حثّ “القادة السياسيين في لبنان على تنفيذ الإصلاحات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير الإغاثة للشعب اللبناني”، ولكن يمكن أن تُحمَّل كلمة “إغاثة” معنى سياسياً، إذ قد تعني أنّ الأولوية الدولية، وبالأخصّ الأميركية، في المرحلة المقبلة ستتركّز على توفير المساعدات الإنسانية للّبنانيين. أمّا بتّ الجوانب السياسية للأزمة اللبنانية فهي مؤجّلة إلى حين اتّضاح معالم المشهد الإقليمي – الدولي الجديد.

الأكيد أنّ الفاتيكان يعمل بصمت منذ مدّة لجعل لبنان حاضراً في قائمة الاهتمامات الدّولية، ولا سيّما بعد انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن. والأكيد أيضاً أنّ الملف اللبناني حضر في اللقاء الذي جمع البابا مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الاثنين الماضي

لكنّ الفاتيكان يدرك في المقابل أنّ جعل الملف اللبناني أولوية دولية ليس أمراً يسيراً في هذا الظرف الإقليمي والدولي، حيث المنطقة تعيش لحظة انتقالية بين وضع قديم لم يسقط نهائياً ووضع جديد لم ترتسم معالمه بعد. وهذا فارق جيوسياسي أساسي بين المبادرة الفاتيكانية تجاه لبنان الآن، وبين مبادراته السابقة نحوه، خصوصاً منذ منتصف التسعينيات حيث كان المشهد الإقليمي واضحاً ومستقرّاً نسبياً.

 والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل سعي الفاتيكان لإعلاء مكانة الملف اللبناني ضمن الأولويات الدولية في المنطقة أسهل عليه الآن من التسعينيات، أم العكس؟

في الواقع، كان يعيش لبنان وقتذاك على وقع العلاقة الأميركية – السورية، وهي علاقة على تعقيداتها تبدو بسيطة أمام ديناميكيّات المواجهة – المفاوضة بين طهران وواشنطن التي تعيش المنطقة، بما فيها لبنان، على وقعها الآن. والمفارقة أنّ الملفّ اللبناني لم يتحرّك فعليّاً في الأروقة الدولية في مطلع الألفين إلّا بعد غزو العراق، أي بعد سقوط الستاتيكو الإقليمي الذي كان قائماً لعقود. أمّا الآن فإنّ ملف لبنان بات مرتبطاً بالترتيبات الجيوسياسيّة الجديدة في المنطقة، أي بالستاتيكو الإقليمي الجديد، الذي لا يمكن التنبّؤ بموعده في ظلّ كثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين على المسرح الإقليمي.

ثمّة فارق آخر بين المبادرة الحالية للفاتيكان تجاه لبنان ومبادرته في النصف الثاني من التسعينيات عندما زار البابا يوحنّا بولس الثاني “بلاد الأرز” سنة 1997 ووقّع على الإرشاد الرسولي من أجل لبنان. يتمثّل هذا الفارق بشكل أساسي باختلاف المشهد السياسي اللبناني بين ذلك الحين والآن. وقتذاك كانت “الساحة” السياسية، على الرغم من أثقال الوصاية السورية على لبنان، تتّسع للمعارضة، سواء استطاعت هذه المعارضة مقاومة محاولات إلغائها أو سمحت حينها طبيعة الظرف السياسي المحلي والإقليمي والدولي في نشوء معارضة، أو كان الأمران معاً. لكن في المحصّلة كانت توجد قابلية وجاهزية لبنانية داخلية لملاقاة أيّ مبادرة خارجية تجاه لبنان، وبالأخصّ إذا أتت من الفاتيكان.

الفاتيكان يدرك أنّ جعل الملف اللبناني أولوية دولية ليس أمراً يسيراً في هذا الظرف الإقليمي والدولي، حيث المنطقة تعيش لحظة انتقالية بين وضع قديم لم يسقط نهائياً ووضع جديد لم ترتسم معالمه بعد

ولعلّ النجاح الأساسي وقتذاك للمعارضة اللبنانية، والمسيحية بشكل خاص، أنّها استطاعت أن تبلور “قضيّة لبنانية” متمثّلة برفع وصاية سوريا عن لبنان. وقد اتّكأت هذه المعارضة التي تظلّلت سقف البطريركية المارونية، على “الإرشاد الرسولي” الذي قال (صفحة 90 رقم 121) إنّه “يفترض أن يستعيد البلد استقلاله التامّ وسيادةً كاملةً وحرية لا لبس فيها”. وفي اللحظة المناسبة خرج المطارنة الموارنة بندائهم الشهير في أيلول 2000 للمطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منه. وهو النداء الذي أطلق دينامية معارِضة انطلقت مسيحيةً، ثمّ توسّعت لتضمّ أطرافاً مسلمين (وليد جنبلاط ثمّ رفيق الحريري) بعد محاولة اغتيال مروان حمادة في خريف 2004.

الآن لا “قضيّة لبنانية” حيوية ولا معارضة سياسية لبنانية فاعلة. والأمران مترابطان أصلاً، إذ إنّ غياب معارضة سياسية وطنية يعني حكماً غياب السرديّة السياسية القادرة على بلورة “قضية لبنانية” تفرض نفسها وتتفاعل، في التوقيت المناسب، مع الأدبيّات والمبادرات الدولية تجاه لبنان، كما حصل منذ النصف الثاني من التسعينيات، وبالأخص منذ النصف الثاني من العام 2000.    

هذه نقطة ضعف رئيسة للمبادرة الفاتيكانية الحالية، إذ هناك غياب شبه تامّ لأرضية سياسيّة لبنانية يمكنها أن تتلقّف هذه المبادرة وتبني عليها. طبعاً هناك مبادرة البطريرك بشارة الراعي المستمرّة منذ ندائه الشهير في 5 تموز الماضي، لكنّها مبادرة بقيت محصورة بشخص البطريرك ولم تتحوّل إلى مجلس المطارنة كما في العام 2000، وتبدّلت زخماً وخفوتاً بالنظر إلى الضغوطات والتطوّرات الدراماتيكية على الساحة اللبنانية. كذلك لم يُبنَ حولها جسم سياسي متين مثلما انبنى لقاء “قرنة شهوان” حول نداء أيلول عام 2000.

إقرأ أيضاً: الفاتيكان يتبنّى مبادرة الراعي “بالحياد”… ويدعو أميركا إليها

ربّ قائلٍ إنّ الفاتيكان لا يريد أن يعطي إشارات سياسية أكثر من تلك المتّصلة بضرورة المحافظة على التعدّدية اللبنانية، وإبعاد لبنان عن نزاعات المحاور الإقليمية، وحثّ مسؤوليه على القيام بواجباتهم. لكن من غير المنتظر من الفاتيكان، ولا سيّما في الظرف الحالي وفي ظلّ ولاية البابا الحالي الذي لا يمكن اعتباره بابا سياسياً على غرار يوحنا بولس الثاني، أكثر ممّا يقول بشأن لبنان. لكن في الوقت نفسه، تذكِّر ظروف وأدبيّات يوم الصلاة في الفاتيكان من أجل لبنان بالمعضلة اللبنانية الرئيسة الآن والمتمثّلة في تزامن الانهيار الاقتصادي مع انهيار سياسي غير مسبوق في ظلّ غياب معارضة سياسيّة تبلور وتَحملُ “القضية اللبنانية” التي لا يزال جوهرها سياديّاً مثلما كان في التسعينيات ومطلع الألفين، وإن تبدّلت هويّة الاحتلال وطبيعته. فلبنان بات يحتاج إلى “إغاثة” بفعل احتلاله قبل أيّ شيء آخر.

إقرأ أيضاً

حين “يَعلَق” موكب ميقاتي بعجقة السير!

تتّسع دائرة الجفاء والتباعد على خطّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام المولوي والمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. آخر الأخبار تؤكّد…

انتخابات روسيا: المسلمون واليهود صوّتوا لبوتين.. لماذا؟

حقّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الروسية التي أُجريت بين 14 و17 آذار الجاري. وإذا كان الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد…

حلفاء “المحور” في لبنان… يخططون لـ”ما بعد طوفان الأقصى”

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت في الأسبوع الفائت إنعقاد لقاء لقوى ومنظمات حزبية من محور الممانعة، منها قيادات في الحزب والجماعة الإسلامية وحركة حماس، وذلك بهدف…

هل يُسلّم البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز؟

من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات في انفجار المرفأ. وكانت لديه مقاربته القانونية-الشخصية للتعقيدات التي كبّلت الملفّ…