ثلاثيّة التسوّل: جيش.. شعب.. مقاومة

بعد حرب تمّوز 2006، التي تحلّ ذكراها الشهر المقبل، دخل الاشتباك السياسي في لبنان حول سلاح حزب الله مرحلةً جديدة.

لم تعد، بإزاء أهوال الدمار العمرانيّ والاجتماعيّ التي خلّفتها الحرب، تفيد سرديّة أنّ السلاح يحمي لبنان، على النحو الذي سادته منذ انسحاب إسرائيل من الجنوب والبقاع عام 2000.

كما بعد عام 2000، كذلك بعد عام 2006، اختار حزب الله المكابرة والإنكار على التفكير الواقعيّ لترتيب مستقبل السلاح وفكرة المقاومة وعلاقة الاثنين بالدولة، فوُلِدت معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” التي وُسِمت بالذهبيّة والماسيّة والمقدّسة…. والخشبيّة!

صارت المعادلة مانيفيستو جديد لفرض هيمنة السلاح وقراره ودوره على اللبنانيين، وانطوت على حسم مسبق لأيّ نقاش في استراتيجيّة دفاعيّة كان يجري الحديث عنها بين الحين والآخر.

جيشنا يتسوّل. هذه واقعة لا تحتمل التذاكي والتوريات. ولولا المصالح الدولية المتقاطعة عند ضرورة درء الانهيار اللبناني الكامل وتحوّل لبنان إلى دولة فاشلة مكتملة المواصفات، لكان الجيش انهار قبلاً

من سوء حظّ اللبنانيّين أنّ التفكير الضروريّ في هذه العناوين تزامن مع انفجار المشروع التوسّعي الإيراني من بوّابة العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين. صارت للسلاح أدوار أخرى بقيت مكتومة القيد، وإن كانت حاضرة بالأفعال في الميدان، في صلب الحرب الأهليّة السنّيّة الشيعيّة في المشرق، وفي صلب مشروع التوسّع القومي الإيراني من طنجة إلى مسقط.

فأيّ استراتيجيّة دفاعيّة سيناقشها حزب الله في لحظة استخدام إيران له في استراتيجيّة هجوميّة معلنة اُفْتُتِح فصلها اللبنانيّ باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005؟

العودة إلى ثلاثيّة الدمار هذه تفرضها المعطيات القاسية لواقع كلّ مكوّن من مكوّناته الثلاثة.

دعونا نسقط الياقات اللفظيّة. فالجيش المتصدّر ثلاثيّة الدمار، “يتسوّل مساعدات غذائيّة وماليّة” لا علاقة لها بالمعونات العسكرية المعتادة من سلاح وعتاد ومعدّات وبرامج تدريب. الجيش، ببساطة، يريد أن يأكل ويحمي القدرة الشرائيّة لضبّاطه وجنوده، فيما قائده جوزيف عون يحذّر

من “انهيار المؤسّسة العسكرية في حال استمرار التدهور الاقتصادي”، والبنك الدولي ينبّه إلى أنّ الجيش اللبناني مهدّد بالانهيار المالي.

ما عاد الحديث يدور حول تطوير قدرات الجيش ولا عقيدته العسكرية ولا السلاح الكاسر للتوازن ولا ترسانته الصاروخية. إنّ الجيش، الذي أُسّس قبل سبعة عقود على أفضل وأرقى ما تُبنى عليه الجيوش الوطنية الحديثة، كما ذكّرنا أمس سمير عطالله في “الشرق الأوسط”، وبناه الأمير النبيل الجنرال فؤاد شهاب بعيداً من غرائز السياسيّين وأنانيّاتهم وفسادهم وصغاراتهم، أصبح جيشاً جائعاً ومنهكاً.

جيشنا يتسوّل. هذه واقعة لا تحتمل التذاكي والتوريات. ولولا المصالح الدولية المتقاطعة عند ضرورة درء الانهيار اللبناني الكامل وتحوّل لبنان إلى دولة فاشلة مكتملة المواصفات، لكان الجيش انهار قبلاً.

الجيش ليس كياناً معزولاً عن بقيّة اللبنانيّين أو محصّناً في مواجهة الكارثة التي تصيبهم. بالمعنى العام والدقيق للكلمة هو ابن هذا الشعب.. الشعب! أي الركن الثاني من أركان معادلة الدمار.

الجيش المتصدّر ثلاثيّة الدمار، “يتسوّل مساعدات غذائيّة وماليّة” لا علاقة لها بالمعونات العسكرية المعتادة من سلاح وعتاد ومعدّات وبرامج تدريب

كما الجيش، يواجه اللبنانيّون كارثة إفقار تصيب الشرائح الدنيا والمتوسطة من الطبقة الوسطى. يشير تقرير البنك الدولي إلى أنّ لبنان “يغرق” في إحدى أشدّ الأزمات العالميّة حدّةً، التي من المُرجّح أن تُصنّف ضمن أشدّ عشر أزمات، وربّما إحدى أشدّ ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

55% من اللبنانيّين، وفق الأمم المتحدة، باتوا يعيشيون تحت خطّ الفقر، أي على أقلّ من 3.84 دولارات في اليوم الواحد، في حين ارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع إلى 23%. وبحسب برنامج الأغذية العالمي، تجاوز معدّل التضخّم في أسعار السلع الغذائية عتبة 400%، وبعضها فاق 1200%. أمّا البطالة فتجاوزت أربعين في المئة، في حين انخفض الحدّ الأدنى للأجور إلى 45 دولاراً شهرياً.

لا داعي للتعريج على مصيبة تردّي الخدمات الأساسية وفقدان الموادّ الحيويّة من الأسواق أو ارتفاع معدّلات الجرائم.

الجيش يتسوّل. والشعب يتسوّل. لا ضرورة لتجاوز القسوة في التعبير إن كان الواقع أكثر قساوة على الناس.

أمّا “المقاومة”، وإن كانت هي نفسها، كميليشيا، خارج لائحة المتسوّلين، فإنّ جمهورها وبيئتها في مقدَّم مَن فقدوا أرزاقهم ومدّخراتهم وثرواتهم. للشيعة ثلث ودائع اللبنانيّين التي تبخّرت في المصارف، وهذا رقم منسجم مع واقع التوزّع الديموغرافي المذهبي. وهي ثروات لم تتمأسس، بل ظلّت بطبيعتها النقديّة أو العقاريّة هشّة وأكثر عرضة لمخاطر الانهيار من ثروات المسيحيين والسُنّة.

الأفدح أنّ هذه الثروات تكوّنت في ظروف قد لا تتوافر للشيعة مجدّداً ولوقت طويل. فإفريقيا لم تعد إفريقيا التي كانتها خلال العقود الستّة الممتدّة من الخمسينيّات حتى الأمس القريب، مع دخول الصين وإسرائيل والخليج إليها بمنطق استثماريّ مختلف تماماً..

والخليج ما عاد خليج السبعينيّات والفورة النفطية وعائداتها التي ساهمت في تكوين ثروات الشيعة وغير الشيعة. يمكن لحسن نصرالله أن يكابر قدر ما يشاء من دون أن يغيّر الوقائع على الأرض.

ما لفتني في تقرير البنك الدولي عن لبنان هو استخلاص معدّيه أنّ لبنان يواجه “تقاعساً متعمّداً” تترجمه خلافات أركان الطبقة السياسية التي تمنع تشكيل حكومة قادرة على إنجاز الإصلاحات المطلوبة والملحّة. وفي ذلك إشارة واضحة إلى مسؤولية النظام السياسي عن دوام الكارثة وتعمّقها. وأمّا النظام فهو هذا الكيان الهجين المكوّن من طوائف وزعامات طوائف مستتبعة لحزب الله.

النظام هو في التحليل الأخير: حزب الله وسلاحه.

إقرأ أيضاً: الحزب يحذّر عون: مدّ شعبيٌّ قد يحاصر بعبدا

وإن كان الجيش والشعب يتسوّلون الخبز والدواء، فإنّ “المقاومة” تتسوّل شرعية مفقودة عبر اختطاف النظام السياسي بكامله، وبصرف النظر عن ثمن هذا الاختطاف.

الثلاثية الذهبيّة صارت ثلاثيّة التسوّل.. لا نقاشَ حقيقيّاً في مستقبل لبنان لا يبدأ من هذه الحصيلة. وكلّ الباقي تفاصيل.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…