القاهرة تجبر خاطر بيروت

لن تنسى القاهرة شقيقتها الصغرى بيروت. فلا تُصدّقوهم. مهما قالوا لا تُصدّقوهم. أولئك الكسالى الذين ما برحوا يندبون حظّ عاصمتهم الثكلى. يستعرضون مصابها وفجيعتها ويُتْمها. ثمّ يلطمون وجوههم. يضربون كفوفهم. يقولون لكل سامع أو عابر سبيل: وحيدون نحن في هذه الدنيا. بلا أخ أو أب أو أمّ حنون.

عاجلاً تأتي إليك مصر، ثمّ تأخذك إليها. ليس في وسعك أن ترفض أو تناور. يكفي أن تُلوّح لك بقبضتها من أثيوبيا. أو بشالها من فلسطين. أو بموكب ملوكها الفراعنة المهيب. أو بعاصمتها الجديدة التي تضاهي العواصم وتباغت العقول وتحبس الأنفاس. تستطيع مصر أن تجرّك إليها متى شاءت. ليس لكونها فاتنة وحسب، بل لأنّ ثمّة من يضربون جذورهم عميقاً في الوجدان وفي التاريخ. ثمّ يتركون لغيرهم أن يبحثوا عبثاً عن رديف. ولا رديف. نفرتيتي واحدة. وكليوباترة واحدة. وأمّ كلثوم واحدة. ونجيب محفوظ واحد. وفاتن حمامة واحدة. حالهم جميعاً حال مصر: لا تتكرّر ولا يتكرّرون.

لا تُصدّقوهم. لا تُصدّقوا الأوهام وأضغاث الأحلام. مصر هذه قفزت من فاقتها وكبوتها وأزماتها وجراحها، وصارت تنافس أزهى الاقتصادات وأعرق الدول. مصر هذه لا تترك شقيقاتها فرائسَ للحزن أو وجبةً للموت. قد تغيب أو تُغيَّب. قد تبعد أو تُبعَد. لكنّها حتماً ستعود. ومتى عادت استعادت كل شيء.

عاجلاً تأتي إليك مصر، ثمّ تأخذك إليها. ليس في وسعك أن ترفض أو تناور. يكفي أن تُلوّح لك بقبضتها من أثيوبيا. أو بشالها من فلسطين. أو بموكب ملوكها الفراعنة المهيب

وبعد بعد. أبرقت إلينا مصر على وجه السرعة. في أحلك لحظاتنا العصيبة. في خضمّ سِنينِنا العجاف. في عزّ شعورنا بالخسارة والوحدة واليُتْم والذعر. أرسلت إلينا أرفع أوسمتها وأجزل جوائزها. وكأنّها أرادت أن تقول من دون أن تقول: هكذا أنظركم. هكذا أراكم. في عيوني أنتم. فلا تيأسوا. ولا تجزعوا. ولا تستسلموا. أنتم أهل الأرض وملحها وخيرها وشرفتها على العالمين. ومصر معكم. كانت وستبقى. منذ ما قبل قبل روز اليوسف ومي زيادة إلى ما بعد بعد رضوان السيّد.

خطف مولانا خُلاصة النيل ووهجه ودفقه. تلك الجائزة الرفيعة، جائزة “النيل” للمبدعين العرب، التي تخصّصها مصر للعمالقة الكبار. وقد ردّ التحيّة بأحسن منها. وهو يخاطبها ببلاغة وتأثّر واقتضاب: هذه مصر كنانة الله في أرضه. تحمي ولا تُهدِّد. تصونُ ولا تبدِّد. تشدّ أزرَ الصديق وتردُّ كيد العدو. وتتحمّل من أجل خير البشرية ما تستطيع وتطيق.

تخطّت الجائزة مفهوم التكريم المجرّد لشخصيّة استثنائية تركت بصماتها الهائلة والمميّزة على مدى نصف قرن. ولامست، في شكلها وفي توقيتها وكلّ مضامينها، تلك التوأمة الناجزة بين القاهرة وبيروت. وهذا تحديداً ما دفع المُكرَّم اللمّاح إلى التركيز على أهمّيتها العميقة، توازياً مع الجهود الحثيثة التي تسعى إلى فصل لبنان عن محيطه العربي، إمّا باتجاه إيراني، أو باتجاه عنصري انكماشي. وهذا يعني، في ما يعني، أنّ لبنان باقٍ على خارطة العرب، وعلى خارطة العالم. وأنّه لم يغِب ولن يغيب.

خطف مولانا خُلاصة النيل ووهجه ودفقه. تلك الجائزة الرفيعة، جائزة “النيل” للمبدعين العرب، التي تخصّصها مصر للعمالقة الكبار

يقول ياسر علوي، السفير المصري الفائق الثقافة والنُبْل والتهذيب، خلال إبلاغه مولانا بمنجه الجائزة: “رضوان السيّد يجسّد لبنان الذي يحبّه ويؤمن به كلّ مصري وكل عربي. لبنان الفكر والثقافة والاستنارة والقانون والدستور”.

إقرأ أيضاً: رضوان السيّد بعيون بيروتيّة

هكذا أرادت مصر أن توجّه لنا ولبلادنا التحيّة. لا بكيس طحين ولا بعلبة دواء، وهي يوماً لم تُقصّر. بل بتكريمنا بأرفع أوسمتها على الإطلاق. وهذا تقديرٌ يتجاوز كلّ تقدير.

أمّا أنتَ يا رضوان. يا أستاذنا الكبير. يا أنيسنا الأحبّ. يا شبابنا الغائر في صورتك وثورتك وعنفوانك وشيبتك. لقد أثلجت صدورنا، وجبرت خاطرنا وخاطر بيروت. تلك العاصمة المثلومة المكلومة المكسورة. وتلك الأيقونة الشهيّة البهيّة الولّادة، التي ما برحت تقفز إلى الضوء كفراشة لا يُرهبها الحريق.

 

إقرأ أيضاً

رضوان السيّد لـ”الأهرام”: مستقبل الإسلام في لاهوت الرحمة

أكّد المفكّر العربي الدكتور رضوان السيد أنّ تطوّر الدولة الوطنية هو الأساس لتحقيق النهضة سياسياً وفكرياً، وأنّ تطوّر مصر ضرورة حتميّة، معلناً ثقته المطلقة بتمكّن…

كلمة في الدكتور رضوان السيّد

أفضل جائزة تقدير يمكن أن تُقدَّم لعالِم ومفكّر كبير في مستوى الدكتور رضوان السيّد هي إنجازاته العلميّة: كتبه ودراساته وأبحاثه ومناقشاته ومقالاته التي تشكّل مكتبة…

رضوان السيّد.. الأزهريّ المُستنير

تربطني بالصديق والمفكّر الإسلامي العربي البارز الدكتور رضوان السيّد، علاقة وطيدة منذ سنوات طويلة، التقينا خلالها مرّات عديدة، بين مسقط وبيروت، وما بينهما أكثر عبر…

رضوان والبحث عن جذور الدولة وسكينة الدين

لم أتعرّف في المرّة الأولى على الدكتور رضوان من خلال لقاء شخصي معه. عرفته أوّل ما عرفته كاتباً وباحثاً. وأوّل ما قرأت له كان أوّل…