عنصريّة العونيّين وأحقاد الحزب: ضرب عروبة لبنان

لكلّ خطابٍ أساسٌ ومسارٌ وهدفٌ يتّسم بالتراكم والتواصل، ويتميّز بالتركيز والإصرار على تثبيت الأفكار التي يريد مطلقوه زرعها في أذهان الرأي العام، ويمتاز بالمواكبة للسياسات والاستجابة للتحرّكات الميدانية والتفاعل مع تحقيق الأهداف والمراكمة عليها. وبينما تعمل المدرسة الأخلاقية في إطار المصطلحات ذات المواصفات المهنية المنضبطة في حالات الصراع، تعمد جبهة الممانعة إلى استخدام وسائل صادِمة لاختراق الوعي، حتى لو كانت مخالِفةً للمنطق والحقيقة، بل سرعان ما تُحوِّلُ خطابَها إلى وسيلة عدوان بكلّ معنى الكلمة.

لهذا لا يمكن أن نصدّق أنّ كلّ ما يجري ضخُّه على مدى السنوات الماضية من إساءاتٍ إلى العرب، شعوباً ودولاً، كان مجرّد هفواتٍ أو انفعالات آنيّة تصدُر عن أشخاص في مواقع المسؤولية الرسمية أو الحزبية، أو عن مؤسساتٍ سياسية وإعلامية بدون خطّة مسبقة.

حوّلت حملاتُ الاستهداف لعلاقات لبنان العربية البلدَ منصّةً لتصدير الإرهاب والمخدِّرات، في إطار عمليةٍ منهجيةٍ تهدف إلى إثارة الكراهية للشعب اللبناني في نفوس العرب، وتيئيس اللبنانيين من إمكان عودة العرب إليهم، حتى يُسَلّمَ الجميع بسقوط لبنان في القبضة الإيرانية.

يستند كلام وزير الخارجية المستقيل والمتنحّي بعد استقالته، شربل وهبة، على تعيير العرب بـ”البداوة”، إلى ميراثٍ تأسيسي من خطاب ما يسمّى “الثورة الإيرانية”، التي تُربّي أتباعها على وصم أهالي الجزيرة العربية، أرض النبوّة والرسالة، بكلّ صور التخلّف، مقابل تزيين الحضارة الفارسية، واعتبارها حضارة نموذجية.

لا يمكن أن نصدّق أنّ كلّ ما يجري ضخُّه على مدى السنوات الماضية من إساءاتٍ إلى العرب، شعوباً ودولاً، كان مجرّد هفواتٍ أو انفعالات آنيّة تصدُر عن أشخاص في مواقع المسؤولية الرسمية أو الحزبية، أو عن مؤسساتٍ سياسية وإعلامية بدون خطّة مسبقة

إذا طالعنا مجمل خطابات قيادات الثورة الإيرانية من الخميني إلى خامنئي، نجدها شديدة العداء للسعودية، ونجد أنّ خطابها الإعلامي يركّز على تفوّق العنصر الإيراني، وحنكته و”صبره الاستراتيجي” على أساس “حياكة السجّاد”، التي تحوّلت إلى “كلمة سرّ” للمتأثّرين بـ”النموذج الإيراني”، بينما يلصقون بالسعودية صفات التخلّف، ويربطون هذا التخلّف بالصحراء والبداوة.

هذه المقاربة العنصرية تسيطر على خطاب الأحزاب الإيرانية، وطالما ردّدها الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، ومن ذلك ما أورده بتاريخ 12 تشرين الأول 2016 عندما قال عن المواجهة في اليمن: “هذه حرب الحقد الوهّابي السعودي (..) خاصة أنّ اليمن أهل الحضارة، في حين كانت نجد غارقة في الصحراء”، وكأنّ الجزيرة العربية كانت خالية من الحضارة الإنسانية.

لطالما غلّف خطباء وإعلاميّو الممانعة إساءاتهم للعرب بحالات الغضب والاستياء، أو بأوضاع السخرية والاستهزاء، لكنّ خطابهم، كان دائماً محمَّلاً بمضمونٍ سياسي وعقائدي مكثّف يؤكّد أنّ ما نراه بعيد عن التلقائية، وجزء من منظومة التأثير المدروس في الرأي العام.

تكمن خطورة ما فعله شربل وهبة، وهو المستشار الدبلوماسي الخاص بالرئيس عون، في أنّه ارتكب هذه الجريمة السياسية بحقّ لبنان، الدولة والشعب. وقد قال ما قاله وهو مدرك لما يترتّب على كلامه من تداعيات خطرة. فالمسافة بين هجمات “حزب الله” وتطاوله على السعودية، وبين موقف الدولة اللبنانية، أصبحت صفراً، خاصة أنّ خطاب العداء للسعودية أصبح موحّداً بين الدولة بقيادة “العهد”، وبين “حزب الله”، في المصطلحات وفي الأهداف.

لم يكن موقف وزير الخارجية شربل وهبة، من السعودية ودول الخليج، جديداً على التيار الوطني الحر وعلى مجمل التحالف الحاكم. فقد سبقت وهبي إلى هذا الخطاب المستفزّ نائبةُ رئيس التيار الوطني الحرّ مي خريش، التي فضّلت إيران على السعودية، على اعتبار أنّ الحضارة الإيرانية أعرق، وأنّ هامش الحرية فيها أكبر، والأهمّ أنّ حياكة السجّاد فيها تُعلّم “الصبر الاستراتيجي”. ثمّ أصدر التيار العوني بياناً قال فيه إنّها لم تنطق باسم التيار، بل باسمها الشخصي، تماماً كما فعل رئيس الجمهورية بعد سقطة وزير الخارجية.

ومع صعوبة فهم هذا الحقد الإيراني على جزيرة العرب، فإنّ السلوك العوني يدفع للسؤال: إذا كان موقف “حزب الله” من السعودية منطلقاً من ارتباطه بالموقف الإيراني العقائدي، فلماذا يدخل طرفٌ مسيحي في هذه المواجهة ليستخدم التعابير والمصطلحات نفسها؟ ولماذا كان المسيحيون في لبنان على أفضل العلاقات بالمملكة على مدى العقود الماضية على الرغم من أنّها كانت تعتمد النهج الإسلامي المعروف، ولم يَمنع ذلك دعم الرياض للدولةَ والشعب اللبنانيّيْن، ولم يمنع استقبال اللبنانيين في السعودية وتمتّعهم بأفضل المعاملات فيها، وخاصة المسيحيين منهم.

لطالما غلّف خطباء وإعلاميّو الممانعة إساءاتهم للعرب بحالات الغضب والاستياء، أو بأوضاع السخرية والاستهزاء، لكنّ خطابهم، كان دائماً محمَّلاً بمضمونٍ سياسي وعقائدي مكثّف يؤكّد أنّ ما نراه بعيد عن التلقائية، وجزء من منظومة التأثير المدروس في الرأي العام

ما يجري ليس مجرّد انفعالات عابرة، والدليل على ذلك مدى اتّساع الهوّة بين لبنان والعرب، وخاصة أهل الخليج، بعد سنواتٍ من الحملات المتواصلة من جانب “حزب الله” وحلفائه، المرفقة طبعاً بالتورّط في العدوان على سوريا والعراق واليمن، واستهداف السعودية واحتلال لبنان، بحيث واكب خطابُ الكراهية كلّ تفاصيل العدوان على العرب.

إقرأ أيضاً: شربل وهبة… ميشال عون السياسيّ

بين السّقطات المقصودة المسيئة إلى السعودية ودول الخليج، الصادرة عن وزراء التيار الوطني الحر ونوابه ومسؤوليه، وبين الحملات العلنية المنظّمة من قبل “حزب الله”، تحت ستار رفض التطبيع، يدخل لبنان مرحلة جديدة من عملية الفصل المنهجية، التي يقودها الحزب، لقطع العلاقات الرسمية، وضرب وشائج القربى والمودّة، بين أغلبية الشعب اللبناني وبين العرب، عبر إحياء كلّ النزعات العنصرية، وتأكيد اختطاف لبنان بالبندقية الإيرانية.

يكفي اللبنانيين لإدراك مخاطر هذا المسار أن ينظروا إلى سوء حالهم في ظلّ حكم تحالف السلاح والفساد، وكيف تحوّل لبنان دولة فاشلة يخشى أبناؤها الموت بسبب غياب مقوِّمات الحياة، وكيف تتسارع، في المقابل، خطوات التطوير في دول مجلس التعاون الخليجي، حتى باتت تنافس الدول الكبرى في خطواتها نحو المستقبل.

فأيّ طريق ينبغي أن يسلك اللبنانيون، وأيّ مقارنة بائسة هذه التي أوصلنا إليها الممانعون أصحاب الخطابات والأفعال العدوانية!

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…