محضر اللقاء الأميركيّ الإسرائيليّ: هل عطّلت غزّة الحرب على إيران؟

من داخل غُرف فنادق التفاوض في العاصمة النّمساويّة فيينّا، يسعى الأميركون والإيرانيون للعودة إلى اتفاق 2015 بحذافيره، على الرغم من صعوبة الأمر. وبين الأخذ والردّ، يخيّم على مطالب الفريقين المُتباعدة، شبحُ الإسرائيليين، ومعهم آلتهم العسكريّة. ويرتفع هذا الشبح فوق احتمال الوصول إلى اتفاقٍ جديد ترى فيه تلّ أبيب تهديداً وجودياً لها. ولا يريد الإسرائيليون أن يروا مجدّداً ابتسامة وزير الخارجيّة الإيراني محمّد جواد ظريف، من شرفات فيينا، مُلوّحاً بمسوّدة الاتفاق مُجدّداً. فهل تقترب الحرب بين إسرائيل وإيران؟ وأين قد يكون مسرحها إن حصلت؟

زاد من راهنيّة هذه الأسئلة هديرُ الطائرة التي أقلعت من تلّ أبيب قبل أسبوعين، وحطّت في العاصمة الأميركيّة واشنطن، وعلى متنها مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شبات ورئيس جهاز الموساد يوسي كوهين، اللذان توجّها مع فريقهما للقاء نظيريْهما الأميركيّين جايك سوليفان ووليام بيرنز.

الرّفض الإسرائيلي للعودة إلى الاتفاق النّوويّ ينطلق من يقينٍ بأنّ إيران ستكون دولة محوريّة من جهة امتلاك الأسلحة النّوويّة بحلول سنة 2030، وهو تاريخ انتهاء صلاحية الاتفاق النووي الموقّع في 2015

كانت السّفارة الإسرائيليّة في واشنطن هي طاولة الاجتماعات التي جمعت الوفدين الأميركي والإسرائيلي. لم يكن الإسرائيليّون يوماً أكثر وضوحاً مع الأميركيين في مسألة “النّووي الإيراني” و”الصّواريخ الباليستيّة” و”الأذرع الوكيلة لإيران في المنطقة”: “لن نقف مكتوفي الأيدي على الإطلاق، وسنضرب أيّ هدفٍ نرى فيه تهديداً لنا، إن كان في إيران أو خارجها”. هذا ما أبلغه الإسرائيليّون للأميركيين في واشنطن. بل وتشير المعلومات إلى أنّ الوفد الأمنيّ سلّم سوليفان وبيرنز وثائق ومعلومات استخباريّة تؤكّد مخاوفهم ممّا يعتبرونه “خفّة أميركية” في التعامل مع إيران وأذرعها، وفي مُجاراة شروطها، بحسب معلومات دبلوماسية موثوقة حصل عليها “أساس” من مصدر عربي اطّلع على محاضر هذا اللقاء.

على الرّغم من محاولة الأميركيين أثناء الاجتماع طمأنة وفد الدّولة العبريّة الأمنيّ إلى أنّ “العودة إلى الاتفاق النّوويّ” ليست سوى البداية، وأنّ ما يُقلِق “إسرائيل” سيُبدَّد بعد حلّ مسألة “النّوويّ الإيراني”، إلّا أنّ تلّ أبيب تمسّكت بالتّصريح عن نيّتها القيام بكلّ ما هو مُتاح لـ”حماية وجودها”.

من السّفارة الإسرائيليّة، انطلقَ رئيس الموساد يوسي كوهين في اليوم التّالي إلى البيت الأبيض ليُلبّي دعوةً للقاء الرّئيس جو بايدن، المُتمسّك بالعودة إلى الاتفاق مع إيران. وقد كان “اللقاء استثنائيّاً” من حيث الشّكل، لكنّ نتائجه كانت مُخيّبة لآمال الإسرائيليين، ورسّخ قناعةً لديهم بأّنّ معركتهم السّياسيّة في التأثير على “تفاصيل الاتفاق” ستكون خاسرة.

أكّد بايدن لكوهين الكلام الذي سمعه من سوليفان وبيرنز، إذ قال له إنّ “الاتفاق هو أوّل خطوةٍ في مسارٍ طويل”، وإنّ إدارته ملتزمة بأمن إسرائيل، ودعا الإسرائيليين إلى انتظار بلورة الاتفاق لمُناقشة ملفّيْ الصّواريخ والأذرع لاحقاً. ولم يُعجِب هذا الأمر تلّ أبيب، ولن يُعجبها مُستقبلاً…

إنّ تمسُّك الرّئيس الدّيموقراطي بالعودة إلى الاتفاق مع إيران، واستراتيجية طمأنة تل أبيب إلى أنّ التّعاطف معها في دوائر إدارته قائم بقوّة، بل وراسخ، جاءَ بنتيجة واحدة: “البلدان اتّفقا على أن لا يتّفقا في شأن إيران”. وانطلاقاً من هنا ازدادت القناعة لدى القيادات الإسرائيليّة أنّ عليهم التّحرّك بانفراد، ومعالجة مخاوفهم لوحدهم.

وبحسب معلومات “أساس”، حدّد الإسرائيليون، خلال اجتماع واشنطن، مطالبهم بثلاث نقاط، هي التالية:

1- أن يكون رفع العقوبات تدريجياً، وليس فورياً وشاملاً. فرفض الأميركيون لأنّهم يعتبرون أنّ عقوبات إدارة دونالد ترامب لم تكن مبرّرة.

2- أن يشمل الاتفاق النووي برنامج الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة في لبنان وسوريا وإيران. وكان جواب الأميركيين أنّ الاتفاق سيكون “نووياً فقط”.

3- الحدّ من التمدّد الإقليمي لإيران وأذرعها المسلّحة وميليشياتها في المنطقة. فأجاب الأميركيون بحزم: “موقفنا واضح ونتفهّم رأيكم. لكنّنا لسنا بوارد البحث في هذا الموضوع الآن. نحن نعتقد أنّ حلول النقاط الثلاث التي طرحتموها تأتي من خلال الحوار لاحقاً”.

هنا أجاب الإسرائيليون من أجل اختصار النقاش: “إذاً سندمّر كلّ ما يمسّ أمننا ووجودنا أمنيّاً وعسكريّاً”.

فوافق الأميركيون. وخلص الاجتماع إلى هذا الاتفاق الوحيد. وبدأت الاستعدادات للمناورة الكبيرة. 

وفي مقابلة صحافية عقب تنصيب بايدن، مع تل كيلمان، وهو الجنرال في سلاح الجوّ الإسرائيلي، المسؤول عن “استراتيجية إسرائيل تجاه إيران”، سُئل: هل تقدر إسرائيل  على مهاجمة وتدمير برنامج إيران النووي بالكامل؟ فأجاب من دون تردّد: “الجواب نعم. عندما نبني هذه القدرات، فإنّنا نبنيها لتكون فاعلة”.

يبدو واضحاً أنّ الرّفض الإسرائيلي للعودة إلى الاتفاق النّوويّ ينطلق من يقينٍ بأنّ إيران ستكون دولة محوريّة مع امتلاكها الأسلحة النّوويّة بحلول سنة 2030، وهو تاريخ انتهاء صلاحية الاتفاق النووي الموقّع في 2015.

اليوم يعيد التّاريخ نفسه. في العام 2014، وأثناء تفاوض إيران في فيينا مع المجموعة الدّوليّة، كانت حركة “حماس” تقصف تلّ أبيب والمدن الإسرائيليّة في مواجهة استمرّت 50 يوماً بالتّمام والكمال

وتتوجّس تل أبيب من مليارات الدّولارات التي سيحصل عليها النّظام الإيراني بعد رفع العقوبات عنه وتحرير أمواله، والتي سيستخدم جزءاً منها، بالتأكيد، في توسيع عمل ميليشياته المُنتشرة على طول خريطة الشّرق الأوسط، خصوصاً حزب الله في لبنان و”حماس” في قطاع غزّة. وهذا ما يعتبره الإسرائيلي تهديداً وجودياً للكيان العبريّ.

ومع عودة الوفد من واشنطن إلى الأراضي المُحتلّة، حاملاً قلقاً إضافيّاً، بدأت إسرائيل مناورة هي الأوسع والأطول في تاريخها، وأطلقت عليها اسم “مركبات النّار”، لمحاكاة هجمات من المحاور كلّها في الوقت نفسه. لكن عُلِّقت سريعاً المناورة مع انطلاق الصواريخ الفلسطينية من قطاع غزّة.

كان مُقرّراً أن يُشارك في هذه المناورة أكثر من 17 ألف عسكريّ من القوّات البريّة والبحريّة والجويّة والفرَق الخاصّة، ليتدرّبوا على التّصدي لخطر فتح 3 جبهات في وقتٍ واحد: (الشّماليّة مع لبنان وسوريا، والجنوبيّة مع غزّة، وجبهة العُمق). أمّا الأخطار التي كانت المناورة ستُركّز على التّصدّي لها فهي التالية:

1- اقتحام حزب الله الحدود الشّماليّة والقتال على أرض الجليل.

2- قصف صّاروخيّ مُكثّف من منصّات مُوزّعة جغرافيّاً.

3- انفجار الوضع الأمنيّ والعسكريّ في الأراضي المُحتلّة عاميْ 1948 و1967.

إنّ هذه المناورة كان قد أصرّ رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي على إجرائها دونما اكتراثٍ للوضع المُتفجّر في مدينة القدس والمسجد الأقصى ولِما يحصل في الإقليم من تطوّرات، وكانت أيضاً أحد الأسباب الرّئيسة لقلق الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي عبّر عنه في خطابه يوم الجمعة الماضي، عندما حذّر من استغلال الإسرائيليين لها وتطوير أهدافها لتصل إلى حرب إسرائيليّة على لبنان، مخوِّفاً مناصريه بدلاً من طمأنتهم، في سابقة لم يقم بها من قبل، وخصوصاً أنّه لم يعد خافياً ما تداوله الفريق الأمنيّ العائد من عاصمة القرار الأميركي. وقد سرّب الحزب أخباراً إعلامية في مواقع وقنوات قريبة منه لتعبئة بيئته وإعدادها نفسياً للأسوأ.

لم يكن مَسرح بداية الحرب، التي تُحاكيها المُناورة، ظاهراً بشكلٍ واضح. إلّا أنّ محاكاتها لهجماتٍ من جبهات عديدة، كلّها ترتبط بإيران، تشير إلى أنّ الإسرائيليين كانوا يريدون تدريب قواتهم الخاصة على مواجهة ردود وكلاء إيران، في حال نفّذت القيادة ضربة قاسية لأهدافٍ في داخِل إيران. لقد كان هذا هدف المناورة غير المُعلن. وهنا يكمن سرّ تفجير جبهة غزّة غداة عودة الوفد الأمني الإسرائيلي من واشنطن. وفعلاً عُلِّقت المناورة الإسرائيليّة. وتصاعدت رائحة إيرانية واضحة من “خطف” حركة “حماس” الحراك المقدسيّ لمناصرة أهالي حيّ الشيخ الجرّاح.

إنّ الصواريخ، التي انطلقت نصرةً للأقصى ولحيّ الجرّاح، لا يمكن وضعها إلا في سياق إقليمي. إذ لم تكن “حماس” مضطرة محلياً إلى فتح جبهة الحرب. بدت الصواريخ “إقليمية” أكثر منها فلسطينية. وكانت وظيفتها استباق أيّ ضربة إسرائيليّة اشتمّ الإيرانيون رائحتها من غُرفة السّفارة الإسرائيلية في واشنطن. ونجح الإيرانيون بإشغال الجيش الإسرائيلي في معركة مع قطاع غزّة، يخرج منها منهكاً على صعيديْ العسكر والجبهة الدّاخليّة. وبالطبع تصير المناورة في خبر كان، ويتأجّل قرار ضرب إيران.

إقرأ أيضاً: هل فعلاً فشلت القبّة الحديدية الاسرائيلية؟

اليوم يعيد التّاريخ نفسه. في عام 2014، وأثناء تفاوض إيران في لوزان مع المجموعة الدّوليّة، كانت حركة “حماس” تقصف تلّ أبيب والمدن الإسرائيليّة في مواجهة استمرّت 50 يوماً بالتّمام والكمال، وذلك في خطوةٍ إيرانيّة واضحة كان هدفها الضّغط على يد واشنطن التي تؤلمها في عهد باراك أوباما، وإلهاء الإسرائيليين بمعركةٍ تعيق تدخّلهم عسكرياً لعرقلة الاتفاق الذي لم تكن إسرائيل موافقة عليه، تماماً كما هو الحال اليوم.

التاريخ يعيد نفسه. طاولة فيينا، التي أقلقت الإسرائيليين، أنجبت طاولة واشنطن. وما خرج من غرف السفارة المقفلة، وجد صداه فوراً في صواريخ غزّة.

الكرة الآن في ملعب إسرائيل. هل ابتلعت الطعم؟ أم تخبّىء في جيبها العسكري مفاجأة لإيران؟

الأيام المقبلة ستكون ممتلئة بالأجوبة.

إقرأ أيضاً

حين “يَعلَق” موكب ميقاتي بعجقة السير!

تتّسع دائرة الجفاء والتباعد على خطّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام المولوي والمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. آخر الأخبار تؤكّد…

انتخابات روسيا: المسلمون واليهود صوّتوا لبوتين.. لماذا؟

حقّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الروسية التي أُجريت بين 14 و17 آذار الجاري. وإذا كان الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد…

حلفاء “المحور” في لبنان… يخططون لـ”ما بعد طوفان الأقصى”

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت في الأسبوع الفائت إنعقاد لقاء لقوى ومنظمات حزبية من محور الممانعة، منها قيادات في الحزب والجماعة الإسلامية وحركة حماس، وذلك بهدف…

هل يُسلّم البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز؟

من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات في انفجار المرفأ. وكانت لديه مقاربته القانونية-الشخصية للتعقيدات التي كبّلت الملفّ…