دفع الودائع بالدولار: مخرج للحاكم يقيه شرّ المودعين؟

بعد 18 شهراً على بدء أزمة المصارف واحتجاز أموال المودعين، استعجل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إعادة هذه الأموال، فأصدر بياناً مساء الأحد كشف أنّه يخوض “مفاوضات” مع المصارف اللبنانية، لاعتماد آلية لتسديد الودائع تدريجيّاً بالعملات كافة، خصوصاً بعد ما سمّاه “نجاح التعميم 154” والتزام المصارف بمندرجاته.

سلامة قال إنّ مبادرته تهدف إلى “إراحة اللبنانيين”، ولهذه الغاية طلب من المصارف تزويده ببيانات الحسابات المصرفية قبل أيام، وتنظيمها ضمن شطور بحسب سقوف الإيداعات وتواريخها، وذلك ليبني عليها خطةً تقضي بدفع مبالغ تصل إلى 25 ألف دولار، مقسّطة على فترة زمنية يُحدّدها هو، مرجّحاً في الوقت نفسه أن تبدأ عمليات الدفع بعد نحو شهرين.

تطرّق البيان أيضاً إلى المنصّة التي طال انتظارها، فكشف أنّ مصرف لبنان سيصدر التعاميم إلى “الجمهور”، فور حصوله على إجابة وزير المال غازي وزني، ردّاً على كتاب كان وجّهه سلامة إليه، ولم يُعرف مضمونه، إلاّ أنّ مصادر مصرفية كشفت لـ”أساس” أنّ الكتاب “يحمل الخطوط العريضة للتعاميم التي ستُنظّم عمل المنصّة”، وقد باتت موافقة وزني “في جيب رياض سلامة”.

في الشكل، كان لافتاً جدّاً صدور البيان مساء يوم الأحد، خصوصاً أن لا واحدَ من المعطيات، التي يحويها هذا البيان، يحمل صفة الاستعجال، إذ كان يمكن أن يصدر صباح يوم الاثنين كالمعتاد، طالما أنّ القرارات المذكورة في البيان مشروطة بموافقة المجلس المركزي، كما يُفترض، وستُطبّق في نهاية حزيران…

سلامة قال إنّ مبادرته تهدف إلى “إراحة اللبنانيين”، ولهذه الغاية طلب من المصارف تزويده ببيانات الحسابات المصرفية قبل أيام، وتنظيمها ضمن شطور بحسب سقوف الإيداعات وتواريخها

فلماذا هذا الاستعجال؟

حتّى اللغة المستعملة في البيان لم تُشبه أسلوب مصرف لبنان ولا المصطلحات المستخدمة عادةً في تعاميمه وبياناته، إذ لم يخلُ من الإرباك في التعابير والمصطلحات التي كان بعضها غير دقيق وطرح شكوكاً وأسئلةً بين الأوساط المصرفية: هل كان فعلاً مصدر هذا البيان هو حاكم مصرف لبنان نفسه؟ خصوصاً أنّه بَلَغَ الصحافيين ووسائل الاعلام عبر “واتساب”، بخلاف البيانات المعهودة والطريقة المتّبعة في انتشارها (تصل غالباً بنسخ PDF على أوراق تحمل اسم المصرف المركزي).

المكتب الإعلامي في مصرف لبنان أكّد لـ”أساس” أنّ البيان “رسميّ وصادر عن الحاكم”، نافياً أن تكون المرّة الأولى التي يصدر فيها بياناتٌ يومَ الأحد، لافتاً إلى أنّ البيانات الواتسابية أمر يلجأ إليه المكتب الإعلامي لنشر البيانات، معتبراً أنّ هذا “أمر طبيعي جداً”.

لكنّ أوساطاً مصرفية رجّحت أن يكون للتوقيت قطبة مخفيّة “لا يعرفها إلاّ رياض سلامة نفسه”، واضعة السبب ضمن “احتمال استباق موقف لجنة المال والموازنة النيابية”، التي يرأسها النائب إبراهيم كنعان، والتي تبحث مصير قانون الـ”كابيتال كونترول”. إذ علم “أساس” من كنعان أنّ النسخة الأخيرة من القانون “حملت تعديلات كثيرة جدّاً… وكلّها في مصلحة المودعين وليس المصارف”، لكنّه في الوقت نفسه استهجن الربط بين هذا القانون وبين بيان الحاكم الصادر يوم الأحد.

أمّا في المضمون، فإنّ البيان آثر التصويب على “نجاح التعميم 154″، أي على التزام المصارف بتكوين سيولة الـ3% من مجموع ما لديها من ودائع أجنبية لدى المصارف المراسلة، وذلك في إشارة إلى أنّ مصدر تمويل عمليات دفع الأموال للمودعين، ربّما سيكون من هذه الأموال المكوّنة حديثاً.

لكنّ المتتبّع للأخبار المصرفية، قادر على اكتشاف عدم دقّة هذا الكلام. وما ردّ “جمعية مصارف لبنان” على قانون الـ”كابيتال كونترول” قبل أيام، إلاّ دليل ساطع على ذلك.

المكتب الإعلامي في مصرف لبنان أكّد لـ”أساس” أنّ البيان “رسميّ وصادر عن الحاكم”، نافياً أن تكون المرّة الأولى التي يصدر فيها بياناتٌ يومَ الأحد، لافتاً إلى أنّ البيانات الواتسابية أمر يلجأ إليه المكتب الإعلامي لنشر البيانات، معتبراً أنّ هذا “أمر طبيعي جداً”

فقد أثارت الجمعية هذه النقطة في ردّها، وأظهرت أنّ عدداً من المصارف لم ينجح حتى الآن في الالتزام بالتعميم المذكور، ناهيك عن أنّ المادة الثالثة من التعميم 154 تحصر وظيفة استخدام هذه الأموال بـ”تسهيل العمليات الخارجية المحفّزة للاقتصاد الوطني”. أضف إلى ذلك أنّ المصارف لم تكوّن هذه النسبة لتدفعها للمودعين، وإلاّ كانت دفعتها مباشرة هنا في لبنان، ولا حاجة لها إلى إيداع هذه الأموال في المصارف المراسلة.

وقد اعتبر رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، أنّ الجملة التي وردت في التعميم 154 عن “تحفيز الاقتصاد الوطني” ربّما تكون فضفاضة أو تُفسّر في هذا المنحى، إذ يمكن أن يقول المجلس المركزي في مصرف لبنان أنّ دفع الأموال للمودعين من الـ3% المكوّنة، هو نوع من أنواع “تحفيز الاقتصاد”.

وكشف غبريل لـ”أساس” أيضاً أنّ “البيان حتى اللحظة يشبه إعلان نوايا، وأنّ المبادرة كلّها لن تكون إلاّ نتيجة تفاوض مع المصارف. وهذا أمر إيجابي، خصوصاً إن كانت هذه المفاوضات ستنظر إلى قدرة كل مصرف من المصارف على تلبية تفاصيل البيان”، معتبراً أن المفاوضات “سترسم المسار النهائي لمصدر الأموال، وستحدّد إن كانت من الـ3% التي فرضها التعميم 154 أو من الاحتياط الإلزامي”.

لكن بعيداً من ذلك كلّه، ترسم الآراء المصرفية 3 سيناريوهات لأهداف هذا “البيان المستعجل”:

السيناريو الأول، يفترض أنّ التطرّق إلى التعميم الـ154 هو واجهة فيما الهدف هو أموال الاحتياط الإلزامي. فالضغوط، التي يتعرّض لها سلامة من قبل السلطة السياسية وآخرها من نائبين في حزب الله زاراه باسم الحزب طالبين منه الاستمرار في دعم السلع الحيوية، الضغوط هائلة جدّاً، وليس في استطاعته التفرّد باتخاذ قرار المسّ بهذه الأموال من دون موافقة المجلس المركزي الذي يرفض أغلب أعضائه ذلك. ولعلّ هذه الظروف دفعت بالحاكم نحو المفاضلة بين السير بـ”الدعم الفوضوي” وهدر ما تبقّى من هذه الأموال، وبين ردّ الأموال إلى أصحابها الأصليين، أي المودعين، فاختار الثاني.

خطوة كهذه ستكون كفيلة بتحييد مصرف لبنان عن مواجهة المودعين، ووضعهم في مواجهة الحلف الحاكم التي تصرّ على هدر أموالهم وتُماطل في وقف الدعم، بل في ترشيده، فيما هو “يسعى إلى إعادة الأموال” إليهم بالدولار الأميركي. 

السيناريو الثاني، شبيهٌ بالأوّل، وينطلق من فكرة البحث عن حلّ متوازن على قاعدة المثل الشعبي القائل “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”، إذ يقوم مصرف لبنان مع اقتراب نفاد احتياطاته من الدولار، باستخدام جزء من أموال الاحتياط الإلزامي ضمن شروطه الخاصة، طالما أنّ مسؤولية البلاد متروكة على كاهل الحاكم. وفي مقابل ذلك يدفع جزءاً من هذه الأموال إلى المودعين بالتقسيط وبالدولار الكاش.

البيان حتى اللحظة يشبه إعلان نوايا، وأنّ المبادرة كلّها لن تكون إلاّ نتيجة تفاوض مع المصارف. وهذا أمر إيجابي، خصوصاً إن كانت هذه المفاوضات ستنظر إلى قدرة كل مصرف من المصارف على تلبية تفاصيل البيان

بهذه الطريقة يستميل المودعين فيردّ غضبهم عنه وعن السلطة السياسية، لقاء استمراره في دعم السلع الحيوية وفق آليّة جديدة يتولّاها هو طالما أنّ السلطة غير مستعجلة على الترشيد. وقد بدا ذلك جليّاً في الكتاب الموجّه من سلامة إلى وزير الاقتصاد راوول نعمة قبل أيام، الذي كُشف عنه أمس الاثنين، وتحدّث عن “تعديل آليّة بيع الدولار بالسعر الرسمي”، التي تتطلّب “موافقة المركزي المسبقة على أيّة طلبات جديدة”.

السيناريو الثالث، يتحدّث عن تعثّر جهود إطلاق البطاقة التمويليّة المموّلة من البنك الدولي حتى الآن، ولهذا يُستبدل الفشل أو التأخّر في إطلاقها، بالدفع للمودعين بالدولار بمعزل عن مصدر الدفع، سواء أكان من الاحتياط الإلزامي أو من الرساميل المكوّنة لدى المصارف المراسلة.

إقرأ أيضاً: 25 ألف دولار لكلّ صاحب وديعة.. من أين؟

هذه الأموال ستساعد الناس على الصمود بوجه تضاعف الأسعار، خصوصاً أنّنا دخلنا في مرحلة رفع الدعم أو ترشيده وفق آليّات المصرف المركزي الجديدة. وستحدّ هذه العملية من التضخّم، وقد تساعد على خفض سعر الصرف لدى الصرّافين، أو في أضعف الإيمان خلق توازن جديد بين “العرض والطلب”.

يبقى، أخيراً، التذكير بأنّ أوساط مصرف لبنان لطالما تحدّثت عن أهمية الاحتياط الإلزامي في “إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية”، خصوصاً مع تشكيل حكومة جديدة والسير بالخطة الاقتصادية.

إذا صحّ الكلام عن إعادة هذه الأموال إلى أصحابها، فهذا يعني أنّ سلامة ملّ انتظار الحكومة وفقد الأمل بتشكيلها قريباً، وبات يبحث لنفسه عن مخرج مشرّف من الحاكمية، يقيه شرّ المودعين.     

إقرأ أيضاً

الانتظار والمماطلة: نعمة الطبقة الحاكمة ونقمة المواطنّ!

محطّات عدّة مرّت على لبنان، ولطالما عاكست الظروف التي واكبت هذه المحطّات مصلحة المواطن، وساهمت في إبقاء الأداء المشين لـ”الطبقة الحاكمة” على ما هو عليه….

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…

عمولة 8 مليار$: إلى متى سيبقى مصرف لبنان صامتاً؟

أثير ضجيج كثير حول تقرير التدقيق الجنائي في حسابات شركة “أوبتيموم” المتعاونة مع مصرف لبنان. لكنّ الأخير لا يزال صامتاً حتى اللحظة. على الرغم من…