الصراع على القدس: حقّ الأرض وحقّ الدين

جاء في القرآن الكريم: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسِطوا إليهم، إنّ الله يحبّ المُقسطين} (سورة الممتحنة: 8).

بحسب منطق القرآن فإنّه لا سبب للحرب إلاّ الدفاع عن حقّ الاعتقاد والدفاع عن حقّ الأرض والدار الآمنة. وهذان السببان أو الحقّان يجتمعان اليوم في القدس وفلسطين.

في زمن الحنيفيّة الأول، زمن إبراهيم وإسماعيل، وزمن النبي محمد (ص) حفيد إسماعيل، كان موطن الصراع مكّة والبيت الحرام. فقد رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ليكون حَرَماً آمِناً { للطائفين والقائمين والركّع السجود} (سورة الحج: 26)، وأراد سادة مكّة حرمان المسلمين، من أتباع النبي من أهل مكّة، من المجيء إلى البيت والطواف حوله والتعبّد فيه. ثمّ عمدوا إلى تعذيب الضعفاء والفقراء وعزلهم ومحاصرتهم وتهجيرهم، فمضوا إلى الحبشة أوّلاً، ثمّ إلى يثرب (المدينة المنوّرة) ثانياً.

للمسجد الأقصى رمزيةً كبرى لأنّه أُولى القبلتين، وثالث الحرمين. فقد ظلّ المسلمون في زمن النبوّة يتّجهون بصلواتهم إلى القدس، باعتبارها دار العبادة المشتركة بين الديانات الإبراهيمية، لعدّة سنوات، قبل التحوّل إلى مكّة، إلى البيت الإبراهيمي العتيق فيها

ما استطاع الفلسطينيون المجيء إلى القدس لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى برمضان إلاّ في الأسبوع الأول، وبعد جهدٍ جهيد. أمّا في بقية الشهر فلا دخول، والمقدسيّون أنفسهم يمكن أن يهاجمهم في المسجد في كل وقت المستوطنون بحراسة الشرطة. إلى أن كانت الواقعة المزدوجة: البدء بتهجير مقدسيّين من مساكنهم بحيّ الشيخ جرّاح بجوار الحرم القدسيّ، وفي الوقت ذاته تحشيد الآلاف من رجالات الشرطة لمنع الناس من الوصول إلى المسجد لقيام ليلة القدر في السابع والعشرين من رمضان، وإقفال حيّ الشيخ جرّاح لمنع المقدسيّين والفلسطينيين الآخرين من المجيء للتضامن معهم ضد سياسات التجويع وهدم المساكن والتهجير.

يتعامل الصهاينة مع أهل القدس بالذات، ومنذ عقود، كأنّهم مهاجرون ولاجئون. فإذا غاب أحدهم للعمل شهوراً، ولو بالداخل الفلسطيني، فإنّه لا يستطيع العودة إلى مسكنه، الذي قد يُصادَر أو يحتلّه المستوطنون. ثمّ إنّ المقدسي لا يستطيع الحصول من البلدية على إجازةٍ ببناء مسكن أو إصلاحه أو الزيادة فيه، وإذا فعل فإنّ مسكنه كلّه يُهدَّم، وقد يجري تهجيره باعتبار أنّه لم يعد يملك سكناً بالمدينة. وهناك “أوهام” بشأن عدالة المحاكم الإسرائيلية التي يلجأ إليها المقدسيّون، بل والفلسطينيون الآخرون، لتحكم بينهم وبين المستوطنين أو الجيش الإسرائيلي. فقد تستمرّ الدعاوى سنين، وقد يصدر حكمٌ بالإخلاء أو بالهدم خلال أيام. وعلى الرغم من أنّ ذلك سارٍ في سائر أنحاء فلسطين المحتلّة، فهو غالبٌ في القدس التي يُرادُ “توحيدها”، أي تهويدها بشتّى السُبُل والأساليب.

هذا هو بند أو عامل الإخراج من الديار. وهكذا يجتمع على المقدسيين، والفلسطينيين بعامة، الأمران: الاحتلال من جهة، ثم قيام المحتلّ بتهجير أهل الأرض أو أصحاب المسكن أو القرية أو الحيّ لإحلال مستوطنين يهود محلّهم، أو تصبح المنطقة عسكرية بحجّة حاجة الجيش إلى ذلك.

وهناك العامل الآخر، الذي يبرز اليوم بشدّة، لكنّه في الواقع مستمرّ منذ عام 1967، عندما احتلّ الصهاينة القدس الشرقية. هناك بحثٌ وحفرٌ، كلَّ الوقت، تحت المسجد الأقصى، بحجّة الاستكشاف للعثور على بقايا أو قواعد الهيكل السليمانيّ. وهذا إلى الاغتصاب الحثيث لأراضي الأوقاف من حول المسجد، وانتزاع الممتلكات بالحيلة والقوّة والشراء. ومنذ أكثر من عقدين، وبخاصةٍ في عهديْ شارون ونتانياهو، صار من المعتاد أن يغير المستوطنون على المسجد الأقصى، فيدخلوه بحراسة الشرطة، ويعتدوا على المصلّين أو ينتزعوا مكاناً للصلاة. وقد أرادوا بذلك الوصول إلى “الحلّ” الذي وصلوا إليه في المسجد الإبراهيمي بالخليل، إذ تمكّنوا من الاستيلاء على نصف المسجد بعد اعتداءاتٍ ومذبحةٍ بالرشّاشات للمصلّين.

نشب صراعٌ بين اليهود والمسيحيين على “تملُّك” إبراهيم وميراثه، حصراً، استمرّ لخمسة عشر قرناً. وما كان هذا هو توجُّه القرآن، الذي ذكر إبراهيم أبا الأنبياء سبعين مرةً، كلّها تدعو للتشارك الواسع في الانتساب إلى إبراهيم ودينه

المساجد الكبرى والجامعة في فلسطين، سواء أكانت تراثيةً أو جديدةً، كثيرةٌ. لكنّ للمسجد الأقصى رمزيةً كبرى لأنّه أُولى القبلتين، وثالث الحرمين. فقد ظلّ المسلمون في زمن النبوّة يتّجهون بصلواتهم إلى القدس، باعتبارها دار العبادة المشتركة بين الديانات الإبراهيمية، لعدّة سنوات، قبل التحوّل إلى مكّة، إلى البيت الإبراهيمي العتيق فيها. بيد أنّ الحرمة أو القدسيّة بقيت لموطن العبادة أو البيت المبارك كما جاء في سورة الإسراء القرآنية: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريَه من آياتنا..} (سورة الإسراء: 1).

وفي الحديث الصحيح عن النبي (ص): “لا تُشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: البيت الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”. فمن الناحية الدينية، ظلّت زيارة الحرم القدسي مندوبة. لذلك، وبعد فتح القدس، أيّام عمر بن الخطاب، أقبلت السلطات على إقامة مصلّىً فيها ليس بعيداً عن كنيسة القيامة. ثمّ بنى الأمويّون فيها المسجد الكبير بعد المصلَّى المروانيّ في عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان، عندما كان يبني الجامع الأموي بدمشق، ويوسّع الحرم النبوي بالمدينة المنوّرة. وعلى الإفريز العلويّ من مسجد قبّة الصخرة، نُقشت أربعون آية من القرآن الكريم من سورة مريم هي الأقدم بين “المخطوطات” القرآنية الباقية. وتغصُّ القدس القديمة بعشرات المدارس التاريخيّة والسُبُل والمشاهد والزوايا والأزقّة المنسوبة إلى الصحابة والخلفاء والعلماء والمجاهدين والمتعبّدين من مختلف العصور إلى الزمن العثماني المتأخّر. إذ كان ديدن كبار السيّدات والسادة، على اختلاف المراتب والقدرات، منذ ما قبل صلاح الدين، الحرص على ترك أثرٍ، مهما صغُر، بالمدينة المباركة من حول المسجد الأقصى أو فيه.

هذا هو المعنى الديني والتاريخي للقدس والمسجد الأقصى بالنسبة إلى المسلمين. وقد نشب صراعٌ بين اليهود والمسيحيين على “تملُّك” إبراهيم وميراثه، حصراً، استمرّ لخمسة عشر قرناً. وما كان هذا هو توجُّه القرآن، الذي ذكر إبراهيم أبا الأنبياء سبعين مرةً، كلّها تدعو للتشارك الواسع في الانتساب إلى إبراهيم ودينه. وليس المجال مُتاحاً في السياق الحالي لقراءة القصة من جديد، وهي تستحقّ الآن قراءةً جديدةً بالفعل. وإنّما بإيجازٍ نقول إنّه منذ القرون الميلادية الأولى ما كان بوسع اليهود السكنى بالقدس أو الوصول إلى حائط المبكى عندما تكون السيطرة على المدينة للمسيحيين. وعندما سيطر الساسانيّون على القدس (604-628م)، وكان لليهود نفوذٌ عندهم، منعوا المسيحيين من السكنى بالقدس أو زيارة كنيسة القيامة. وقد اشترط بطريرك القدس الأرثوذكسي صفرونيوس على المسلمين عندما فتحوا القدس عام 636 أو 637م أن لا يسمحوا لليهود بسكناها، أو يصلوا إلى حائط المبكى. لكنّ المسلمين لم يراعوا هذا الشرط لأنّ، من الناحية الدينية، وبحسب القرآن، اليهوديّةَ ديانةٌ إبراهيميّة.

بعد الاستيلاء على الديار، والتهجير منها، وبخاصةٍ القدس، وهذا هو السبب الأبرز للحروب (الاستعمار) قديماً وحديثاً، يحاول الصهاينة منع المقدسيّين والفلسطينيين من الصلاة في المسجد الأقصى مقدّمةً للاستيلاء عليه. وهكذا فإنّهم يقاتلونهم في دينهم أيضاً. هناك حربٌ وطنيةٌ للخروج من الاستعمار، ويريد الصهاينة والمتعصّبون اليهود تحويلها إلى حربٍ دينيةٍ أيضاً. وهذا سببٌ آخر لاستمرار النزاع الوجودي على الأرض والدين.

إقرأ أيضاً: لست سعيداً…

كل ميراث النهضويّين والسياسيّين والقوميّين العرب أنّ الصراع على فلسطين هو صراعٌ ضد الاستعمار ومن أجل التحرير. وعندما كان البعض يهتمّ لخصوصيّات هذا الاستعمار باعتباره الاستيطاني، كان يشبِّهه بالأوضاع التي كانت سائدةً في جنوب إفريقيا وروديسيا. لكنّ الصهاينة، الذين يزعمون التشبّث بالقومية والعلمانية، يصرّون على تحويل الصراع على القدس وفلسطين إلى حربٍ دينيةٍ.

الإخراج من الديار، ومقاتلة المصلّين، علّتان جديدتان للحرب المستمرّة. وهي الحرب أو الحروب التي بدأت على الفلسطينيين منذ مائة عامٍ وأكثر، منذ وعد بلفور عام 1917م، ويسألونك: لماذا التطرّف الإسلامي؟!
[VIDEO]

إقرأ أيضاً

“حرب غزّة” تفتح الشّهيّة للاستثمار في “التطرّف” السّنّيّ

يفتح التعاطف مع غزة الشهيّة للاستثمار السياسي والأمنيّ في الساحة السنّيّة في أربعة اتّجاهات، لكلّ منها أغراضه: 1- الشيطنة: هو الاتّجاه التقليدي الأكثر استسهالاً وتنميطاً،…

السُّنّة وانتخابات المهندسين: رحم الله رفيق الحريري

إن كانت خسارة القوات اللبنانية في انتخابات نقابة المهندسين في طرابلس وبيروت يمكن النقاش حولها وتبريرها بالنسبة لمناصري القوات استناداً إلى تمكّن القوات من حصد…

ردّ إيران المحبوك: ما له وما عليه

لطالما اعتمدت إيران استراتيجية “الدفاع الأماميّ” التي طوّرها قاسم سليماني عبر إنشاء “محور المقاومة”، من أجل إبقاء أيّ مواجهة محتملة مع أيّ خصم أو عدوّ…

الفضيحة الشاملة: قصة هجوم لم يقع

كان الهجوم الإيراني على إسرائيل وهماً من الوهم المستمرّ منذ أربعين عاماً وأكثر من العداوة بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. وقد تبيّن أنّ المقصود من…