حكاية “قانون المنافسة”: من منع الاحتكارات.. إلى تشريعها

جاء ليكحّلها، فعماها. لعلّ هذا المثل الشعبي ينطبق على “قانون المنافسة” الذي كان يُرتجى منه أن يوقف الاحتكارات وينسف أسس الوكالات الحصرية، لكنّه تشوّه ليصير في خدمة المحتكرين وأصحاب الوكالات الحصرية. 

منذ الاستقلال، مثّلت ظاهرة الوكالات الحصريّة والاحتكارات إحدى أبرز سمات النموذج الاقتصادي اللبناني، مؤدّيةً إلى حصر المنافسة في كل قطاع بحلقة ضيّقة جدّاً من المنتفعين وأصحاب النفوذ السياسي والمالي. وطوال العقود الماضية تجنّدت الكارتيلات المستفيدة من منظومة الوكالات الحصريّة لإطاحة أيّ مسعى يمكن أن يمسّ هذه الاحتكارات، سواء كان ذلك عبر مشروع قانون أو قرارات إداريّة. أمّا آثار هذه الظاهرة فانعكست على شكل غلاء أسعار السوق، وتركُّز السيطرة على النشاطات الاقتصاديّة وخيراتها بيد قلّة من التجّار في السوق.

مع حصول الأزمة ووقوع لبنان تحت ضغوط دوليّة لإجراء إصلاحات اقتصاديّة بنيويّة قبل الحصول على أيّ مساعدات خارجيّة، وجدت وزارة الاقتصاد نفسها مضطرّة إلى تحريك ملف “قانون المنافسة”، الذي كان يُفترض أن يكون إقراره بوّابة لإنهاء ظاهرة الاحتكار وحماية تنافسيّة الأسواق. وقد كان هذا الملفّ أحد الإصلاحات الذي طالبت به جميع الجهات الدوليّة المتابعة للملفّ اللبناني.

لكن مرّة جديدة دخلت على الخطّ مناورات وضغوط القوى النافذة تاريخيّاً في القطاعات الاقتصاديّة المختلفة، لتحوّل مشروع القانون إلى واحد من أبواب قوننة الاحتكارات والوكالات الحصريّة وتشريعها، من خلال شوّهات كبيرة طرأت على مسوَّدة مشروع القانون التي عملت عليها وزارة الاقتصاد.

منذ الاستقلال، مثّلت ظاهرة الوكالات الحصريّة والاحتكارات إحدى أبرز سمات النموذج الاقتصادي اللبناني، مؤدّيةً إلى حصر المنافسة في كل قطاع بحلقة ضيّقة جدّاً من المنتفعين وأصحاب النفوذ السياسي والمالي

باختصار، نحن اليوم أمام قانون منافسة يؤدّي إلى عكس المطلوب منه تماماً، عبر تكريس فكرة الكارتيلات الاحتكاريّة، لكن على نحو قانوني وشرعي، بدل أن يؤدّي إلى إنهاء مبدأ الاحتكارات والوكالات الحصريّة.

إليكم قصّة “مشروع قانون المنافسة”، من ألفها إلى يائها…

تعود فكرة مشروع القانون إلى حقبة التسعينيّات، حين ضغط الاتحاد الأوروبي على لبنان لصياغة أطر تشريعيّة تحمي فكرة المنافسة في الأسواق وتقضي على الممارسات الاحتكارية قبل توقيع اتفاقات الشراكة الأورو – متوسطيّة. لكنّ هذه الفكرة واجهتها مقاومة داخليّة كبيرة قام بها لوبي المستفيدين من الوكالات الحصريّة. وهؤلاء في غالبيّتهم ينتمون إلى عائلات وكارتيلات نافذة ومتجذّرة تاريخيّاً في جميع القطاعات. أدّى هذا الأمر إلى دخول لبنان في اتفاق الشراكة الأورو – متوسطيّة من دون إقرار مشروع القانون، مع وعد بالعمل عليه لاحقاً بعد تذليل العقبات.

في 2002، حاولت حكومة الرئيس رفيق الحريري إحياء المشروع من جديد، في ضوء التحوّلات التي طرأت على الاقتصاد الدولي، خصوصاً فتح الحدود وتسهيل التبادل التجاري بين الدول، وهو ما يتناقض بديهيّاً مع فكرة وجود قيود محليّة على تبادل السلع من خلال الاتفاقات الاحتكاريّة والوكالات الحصريّة. لكن مرّة جديدة، كان لوبي أصحاب الوكالات الحصريّة أقوى من أيّ جهد رسمي، ولم يُحَل مشروع القانون على أيّ من اللجان النيابيّة، التي كان يُفترض أن تنظر في أمره.

المحاولة الأخيرة لإحياء الفكرة حصلت بعد خمس سنوات من تلك الواقعة، أي في 2007، عندما حاولت حكومة فؤاد السنيورة تمرير مشروع قانون مماثل إلى المجلس النيابي. لكنّه مرّة جديد دُفن بحجّة الخلاف على “ميثاقيّة” حكومة السنيورة. على الرغم من أنّ النائب علي بزّي حاول في تلك المرحلة إيجاد مخرج ما للمسألة عبر التقدّم بمشروع قانون مماثل في المجلس النيابي.

أخيراً في 2019 لم يكن من الممكن أن يماطل لبنان أكثر في هذا الموضوع، خصوصاً أنّ البلاد تحتاج إلى أموال مؤتمر “سيدر” في تلك المرحلة، وإلى أموال صندوق النقد الدولي لاحقاً بعد الدخول في مرحلة التعثّر. في حين أنّ جميع المانحين الدوليّين كانوا يربطون المساعدات بسلّة إصلاحات، من ضمنها معالجة ظاهرة الاحتكارات. وبضغط ومساعدة من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، عملت وزارة الاقتصاد في تلك الفترة على مسوّدة جديدة من مشروع القانون، الذي كان جزءاً من سلّة خطوات إصلاحيّة تعمل عليها الحكومة.

تعود فكرة مشروع القانون إلى حقبة التسعينيّات، حين ضغط الاتحاد الأوروبي على لبنان لصياغة أطر تشريعيّة تحمي فكرة المنافسة في الأسواق وتقضي على الممارسات الاحتكارية

لم تعد الإطاحة بمشروع القانون سهلة، كما حصل مراراً وتكراراً. لكن دخلت ضغوط جديدة على الخطّ، هدفها هذه المرّة تغيير موضوع مشروع القانون وتشويهه، بدل عرقلته. ولهذا السبب، سحب وزير الاقتصاد راؤول نعمة مشروع القانون من الأمانة العامة لمجلس الوزراء، لوضع مجموعة تعديلات عليه، صبّت في مجملها ضمن سياق تحويله إلى قانون “يشرّع” الامتيازات والوكالات الحصريّة و”يقوننها”، بدل أن يعمل على “إنهائها”.

تعديلات الوزير على مشروع القانون شطبت من لائحة الاتفاقات والممارسات المحظورة مبدأَ عرقلة دخول المنتوجات وتدفّقها إلى السوق المحليّة أو إقصائها منها، وهي الممارسة التي عادة ما تقوم عليها فكرة الوكالات الحصريّة. وشطبت مبدأَ تحديد أسعار السلع وبدلات الخدمات، وشروط البيع. وشطبت أيضاً مقطعاً يعرّف الأشخاص الذين يملكون وضعيّة مهيمنة داخل قطاعاتهم، من أجل حظر التعسّف في استعمال هذه الهيمنة لمنع المنافسة.

إقرأ أيضاً: جمهوريّة البؤس: ودِّعوا شراء السيارات

بعد كل هذه التعديلات، بات مشروع القانون يصبّ تلقائياً في خدمة الاحتكارات والوكالات الحصريّة، لا بل تحوّل إلى نصّ قانون قادر على تشريع هذه الممارسات بدل معالجتها، خصوصاً أنّ مضمونه لم يعرّف “حصر استيراد السلع” بجهة ما بأنّه “ممارسات تضرّ بالمنافسة المشروعة”.

جرت كل هذه التعديلات بخفّة متناهية، ومن دون الارتكاز على أيّ مقاربات قانونيّة أو دراسات جدوى اقتصاديّة تحدّد آثار بنودها الملموسة لاحقاً. أمّا الأهمّ فهو عدم قدرة مشروع القانون على تلبية أيّ من الشروط الإصلاحيّة التي يطلبها المانحون حالياً من لبنان، والتي تتعلّق تحديداً بتحرير عمليّات الاستيراد من أيّ وكالات حصريّة يمكن أن تقيّد تدفّق السلع والخدمات إلى البلاد.

باختصار، بات القانون لزوم ما لا يلزم.

إقرأ أيضاً

الانتظار والمماطلة: نعمة الطبقة الحاكمة ونقمة المواطنّ!

محطّات عدّة مرّت على لبنان، ولطالما عاكست الظروف التي واكبت هذه المحطّات مصلحة المواطن، وساهمت في إبقاء الأداء المشين لـ”الطبقة الحاكمة” على ما هو عليه….

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…

عمولة 8 مليار$: إلى متى سيبقى مصرف لبنان صامتاً؟

أثير ضجيج كثير حول تقرير التدقيق الجنائي في حسابات شركة “أوبتيموم” المتعاونة مع مصرف لبنان. لكنّ الأخير لا يزال صامتاً حتى اللحظة. على الرغم من…