ياسر علوي: سفير لمصر نقرأه في 5 مقالاتٍ

إذا أردت أن تتعرّف على ياسر العلوي الدبلوماسي، والموسيقي، والمثقف، والإنسان، فعليك أن تُبحر في خمسة نصوص كتبها الرجل خلال سنوات متباعدة.

فالرجل يُخبّئ أسراره داخل نصّه، في جملة أو مفردة أو خاتمة، وربما في عنوان.

مبدعٌ في رصف الكلمات، كأنّه نحّات يعمل على مشروعه الحُلم. وهو خبير بقراءة التفاصيل كباحث آثار يعمل في دلتا النيل أو على تخوم أهرامات الفراعنة. ملتزم في إدارة وإيصال الفكرة كأنّه “مايسترو” على رأس الفرقة الموسيقية خلف السيّدة “أم كلثوم”.

خمسة نصوص ترسم هوية ياسر العلوي، سفير جمهورية مصر العربية في لبنان. كتبها ما بين عامي 2008 و2014: أوّلها في صحيفة “السفير” اللبنانية، وثلاثة منها في صحيفة “الشروق” المصرية. اثنان يتحدّثان عن السياسة والفكر. الأوّل، كان رثاءً لمفكّر يساريّ مصري، كتبه في ساعة واحدة، عام 2008، بعد وفاة عبد الوهاب المسيري. ما كشف ومدى قدرته على الكتابة التأريخية والدقيقة في وقت قصير جدّاً، تحت عنوان: “الانتصار للتاريخ.. مشروع المسيري الذي لم يكتمل“. والثاني “أسطورة مصر أوّلاً: الدور الإقليمي ليس صدقة جارية“. فيما تأخذنا النصوص الثلاثة الباقية إلى الجانب المرهف الفنّيّ والإنساني عند ياسر العلوي. الأوّل بعنوان “أغاني العمل والأمل: الشيخان سيد مكاوي وإمام عيسى“، والثاني “يا دارة دوري فينا: فيروز والعبقري المظلوم فيلمون وهبي“. والثالث “ليالي الحلمية من اختمار الحلم ييجي النهار“.

الرجل يُخبّئ أسراره داخل نصّه، في جملة أو مفردة أو خاتمة، وربما في عنوان

في السياسة، ياسر العلوي الدبلوماسي ذو الشغف اليساري، يتجلّى شغفه، كاتباً في جريدة “السفير” للمرّة الأولى والأخيرة، يوم رحيل المسيري فيبدأ بالتالي: “برحيل العلامة عبد الوهاب المسيري عن عمر لم يتجاوز 69 عاماً، خبُرَ العشرات من تلامذته من المحيط إلى الخليج لوعة فقد الأب والمرشد”. ويختم نصّه مازجاً المسيري بفلسطين عبر رمزية المكان، فيكتب: “مات المسيري أمس في مستشفى فلسطين (أولم تكن فلسطين دائماً المبتدأ والمآل عند المسيري) بالقاهرة”، ودُفن بحسب وصيته في بلدته دمنهور بعد شهور قليلة من صدور كتابه المصوّر الجميل عن قصيدة “موّال الملاح القديم” للشاعر الإنجليزي الأعظم كوليريدج. أَوَلَمْ يقل الشاعر العظيم المفضّل الراحل فؤاد حداد “إنّ الأرض مصرية/ أمّا الوطن عربي/ والجرح إنساني”.

وتُستكمل صورة السياسي عند ياسر العلوي في مقالته التاريخية في صحيفة الشروق: “أسطورة مصر أولاً: الدور الإقليمي ليس صدقة جارية”. فهو يرسم في هذه المقالة صورة مصر العربية وتفاصيل أهمية هذا الدور من أجل مصر أولاً، ثم من أجل العرب. يكتب في خاتمة هذه المقالة: “أهمية بلورة تصوّر ما للعروبة، لمصر مصلحة أكيدة فيه. تصوّر يستخدم “المدخل العروبي” كرباط حداثي ديمقراطي يؤسّس للتعاون والتنمية وحماية الأمن المشترك لدول المنطقة، ويحمي مصالح مصر المتشعّبة في المنطقة العربية. هذه مهمّة مُلحّة، وتستحق فتح أوسع نقاش حول سبل ترجمتها في سياسات ملموسة. ولكن ما يمكن تأكيده هنا بضمير مطمئن، هو أنّه لو لم تكن “العروبة” موجودة، لوجب علينا، في مصر بالذات، اختراعها، ولو من قبيل الدفاع عن “مصر أوّلاً”.

بالانتقال إلى صورة الموسيقي، ياسر العلوي ليس ناقداً موسيقياً وحسب، بل هو خبير ومتذوّق برتبة أستاذ، ذهب إلى ما لم يذهب إليه الآخرون باحثاً في الموسيقى بكل نتاجاتها حتى وصل إلى تيترات الأفلام والمسلسلات: “مشكلة “التترات” دائماً أنّها لا تُجمع في ألبومات، وعندما تُعاد إذاعة المسلسلات، تكون “التترات” الضحية الأكبر للإعلانات. ومن ثَمّ، فنحن نتكلم عن تحف موسيقية، قاومت موجة الانحدار الكبرى منذ نهاية السبعينيات، ولكنها مهدّدة دائماً بالاندثار بسبب وطأة منطق السوق”.

نكتشف لاحقاً أنّ جنسية الموسيقى عند ياسر العلوي ليست مصرية ولا لبنانية ولا عراقية، بل هي جنسية إنسانية تتجاوز الحدود والأعراق والأجناس. ربما تأثّراً بجدّته التي كانت مديرة الكونسرفاتوار المصري.

ففي مقال آخر في صحيفة “الشروق” يتحدّث عن فيروز والرحابنة كلبناني، وعن سيد درويش وفايزة أحمد ومحمد منير كمصري، انتصر لفيلمون وهبي “المظلوم” كما وصفه. وانتصر للشيخين سيد مكاوي وإمام عيسى، فتراه في مقالته المنشورة في 3 أيار 2014 يكتب: “العمل الإنساني بطبيعته لم يكن ممكناً أن يكون نشاطاً فردياً، بل نشاط جماعيّ، يتكاتف فيه البشر، وتنشأ بينهم علاقات تعاون و/أو صراع. وعلى وقع علاقات العمل هذه، نشأت المجتمعات البشرية، وانتقل البشر من حياة التوحّش المنفردة إلى حياة العمران، فكان الإنسان كما نعرفه، وكانت حضارته وثقافته وثمار إبداعه”.

بالانتقال إلى صورة الموسيقي، ياسر العلوي ليس ناقداً موسيقياً وحسب، بل هو خبير ومتذوّق برتبة أستاذ، ذهب إلى ما لم يذهب إليه الآخرون باحثاً في الموسيقى بكل نتاجاتها حتى وصل إلى تيترات الأفلام والمسلسلات

أجمل ما في كلّ تلك المقالات ما يحرص ياسر العلوي على أن يكون خاتمةً لمقالاته الفنية من أفعال الأمر الجميلة أو القوة الناعمة بصياغة الفعل، فيقول مرة: “استمتعوا وتسلطنوا… وليكن أسبوعكم مليئاً بالجمال والبراءة والمتعة”. ويختم في مقال آخر: “اسمعوا وتسلطنوا وأبشروا بجنّة يحميها الرفاق من كلّ الناس والأجناس، وبأمل مشرق سيصنعه العمل والعمّال”. ويختم مقالاً ثالثاً: “استمتعوا وتسلطنوا ودعونا لا ننسَ تيترات المسلسلات وكنز الموسيقى الذي تحويه”.

… لم يكن تعيين ياسر العلوي على رأس الدبلوماسية المصرية في لبنان عام 2019 مجرّد مصادفة. كلّ ما يحصل في مصر يخضع لرؤى وخطط استراتيجية تحاكي دور مصر الإقليمي والعربي والدولي.

لبنان ليس غريباً على ياسر العلوي، وياسر العلوي ليس غريباً عند اللبنانيين. صداقات الرجل مع أهل الفكر والسياسة والفنّ في لبنان ليست وليدة الساعة ولا طارئة بفعل موقعه الدبلوماسي، بل هي صداقات عريقة ووطيدة عمرها سنوات طويلة.

إقرأ أيضاً: عودة مصر (1): خروج الفرعون من القلعة

يعرف ياسر العلوي الدهاليز اللبنانية زاوية زاوية، ولا يخفى عليه شيء. هو المتعمّق بالأحداث والقضايا اللبنانية. شهد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وصولاً إلى احتلال بيروت في 7 أيّار 2008. وجاءها سفيراً في زمن الإنهيار. هو خبير بالطوائف اللبنانية ومكامن قوّتها وضعفها.

هو سفير فوق العادة في بلد تاريخه وحاضره ومستقبله خارج سياق كلّ عُرف وعادة. لم يأتِ كلّ ذلك من فراغ. هو صلة الوصل بين كلّ الأجهزة المصرية دبلوماسيةً وأمنيةً وسياسية.

.. في حياة ياسر العلوي ثلاث إناث: الأولى هي الأغنية، والثانية السياسة، والثالثة حبيبة ليس لها من وقته سوى القليل القليل. يعمل 12 ساعة في النهار، ويقرأ ويستمع إلى الموسيقى 5 ساعات. وما بقي من النهار ينقسم بين نوم واستعداد لبداية يوم جديد، يختلط فيه الشأن اللبناني بالسوري والأردني والفلسطيني لتختصر مصالح مصر القومية والاستراتيجية.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…