إدارة بايدن واندفاعات الغضب والرضا

ما وجدت أنا وغيري تعليلاً معقولاً لبدايات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في الرضا عن إيران والغضب على العرب وبخاصةٍ الخليجيين منهم. والإعلاميون الأميركيون لا يوافقون على تصنيف السياسات الجديدة بالرضا والغضب. لكنّهم لا ينكرون دلالات ونتائج ما حصل حتّى الآن، وإنْ بتعليلاتٍ أخرى. من بين تلك المسوغات أنّ إجراءات الرئيس وإدارته ناجمة عن وعودٍ انتخابية من جهة، وعن ضغوط أوروبية من جهةٍ أُخرى. فقد وعد بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، لكنّه من وجهة نظر بعض الإعلاميين أخطأ في التسرّع وتكليف الأوروبيين بتقديم عرضٍ لإيران ما تردّدت في رفضه: العرض هو في الطلب إلى إيران العودة للاتفاق النووي أو الإعلان عن وقف كل شذوذات الشهور الأخيرة في مقابل العودة إلى التفاوض. والرفض: لاعودة عن الإجراءات ولا عودة إلى التفاوض إلاّ بعد رفع العقوبات. وقد بدا الارتباك في الإدارة التي عادت ثلاثون مؤسسة بحثية أميركية لمطالبتها بالتوازي بين رفع العقوبات، والعودة إلى التفاوُض. ويبدو أنّ ذلك هو ما سيكون عليه الأمر قريباً، إن تفوّقت الضغوط الأوروبية على الضغوط الإسرائيلية.

لكن أيّاً يكن عليه الأمر بالنسبة لحالة الرضا عن إيران وأبعادها، ما هي علّة “التسرع” في إظهار “الغضب” على كل العرب وفي طليعتهم الخليجيون؟

تقولون إنّ سياسات ترامب في الضغط الشديد لم تنجح ولذلك عمدتم إلى تغييرها. لكن من قال إنها لم تنجح؟! فقد اتجه الحزب الإيراني المسلّح في لبنان للدخول في مفاوضات على ترسيم الحدود مع إسرائيل، وأوقف الإيرانيون هجمات ميليشياتهم بالعراق بعد اغتيال قاسم سليماني لأنّ ترامب قال لهم: “كلّ ضربة بضربات، خصوصاً إذا مات أميركي واحد”

في الأيام الأولى للإدارة الجديدة أوقف الرئيس بايدن عقود التسلّح مع السعودية والإمارات بحجّة إعادة الدراسة والمراجعة، كما أعلن عن وقف التعاون اللوجستي مع المملكة في حرب اليمن، وتراجع عن قرار الرئيس السابق دونالد ترامب باعتبار الحوثيين تنظيماً إرهابياً، وعيّن مبعوثاً أميركياً إلى اليمن. ثم انصرف الرئيس بايدن إلى مماحكة المملكة في قضية جمال خاشقجي، والإعلان عن عدم التواصل إلاّ مع الملك، ليصدر على أثر ذلك وبعد إنذارات جمة تقرير المخابرات الأميركية عن حدث خاشقجي والذي يشبه تقارير أو مقالات الرأي في إحدى الصحف الأميركية لا أكثر.

هل كلّ ذلك تسرعٌ أيضاً؟ وهل هذه سياسات الدولة الأعظم في المراوحة بين الغضب والتسرع والانتقام؟ وفي ماذا؟ في العلاقة مع أهم الأصدقاء وأقدمهم في المنطقة.

تحدّث مؤيدو مقاربات بايدن الغاضبة عن الملف الإنساني باليمن، وعن مسائل حقوق الإنسان. لكنّهم وبعد أقلّ من أسبوعين راحوا يناقشون الآثار السلبية لتلك القرارات والإجراءات بما في ذلك إمكانيات التفاوض مع إيران، وإمكانيات الحلّ السلمي أو السياسي باليمن. فمنذ سنتين وأكثر دخل السعوديون والحكومة الشرعية باليمن في مشروعٍ للحلّ الإنساني والسياسي اقترحه المبعوث الدولي غريفيث، ويدعمه الآن بقوّة المبعوث الأميركي الجديد إلى اليمن. وجاءت الآثار السلبية المباشرة لإعفاء الحوثيين من تهمة الإرهاب متمثلةً في هجوم الحوثيين الضاري على مأرب والجوف والحديدة وتعز، وفي مفاوضات تبادل الأسرى التي كانت تجري في عمّان، وتعاظُم المأساة الإنسانية باليمن بغارات الحوثيين على مخيمات اللاجئين. وهذا كلّه فضلاً عن عشرات المسيرات المفخخّة والصواريخ على أراضي المملكة وأحيائها المدنية.  

كلّ صفقات التسلّح بين الخليجيين والأميركيين هي صفقات دفاعية، فلماذا إيقافها؟ هل هاجمت دولةٌ خليجيةٌ برّاً أو بحراً أو جوّاً إيران أو ميليشياتها في أي مكان، وبالسلاح الغربي أو بغيره؟ في حين هي تتلقّى الهجمات في البر والبحر والجو من كلّ مكان.

الأمر كما قال الامير بندر بن سلطان، مدير المخابرات السعودية السابق، في مقابلته مع موقع “أساس” قبل أيام: “كلّه كلام سياسي وإجراءات سياسية”. وأضيف أنّه لا علاقة لذلك كله بالحرص على حقوق الإنسان

ولا يحسبنّ أحدٌ أنّ غريفيث العظيم (أو بواسطته الأميركيون) كان قد تلقى تطمينات بشأن الحلّ في اليمن أو وقف الهجمات على المملكة. فقد ذهب غريفيث إلى طهران، حين كانت غضبات بايدن على السعودية تتوالى، رجاء “تلطيف” سلوك الحوثيين الذين يديرهم ضابط إيراني بصفة سفير في صنعاء، فبماذا عاد مبعوث السلام هذا؟ طبعاً بلا شيء. ثم هو الآن مع وزير الخارجية الأميركي والمبعوث الأميركي إلى اليمن ويضاف إليهم الأمين العام للأُمم المتحدة. هؤلاء جميعاً مشغولون باستنكار الهجمات على المملكة والهجوم على مأرب. وفي الوقت نفسه يقول الأميركيون إنّهم ضامنون لأمن المملكة، فكيف يتجلّى هذا الضمان؟ ما داموا لا يتدخلون للردع لا في الجو ولا في البحر. ثم إنهم يمنعون عن المملكة السلاح الذي يمكّنها من الدفاع عن نفسها.

إنّ سياسات إدارة بايدن في أسابيعها الأولى تجاه امن المملكة وسيادتها هي سياساتٌ تشبه الانتقام، وهي متّخذة منذ مدة ولا تتّسم بالتسرع. وهناك إصرارٌ عليها بدليل عدم الترّاجع عن أيٍ منها وإلاّ لظهر الفرق في أي مكانٍ وفي كلّ مكان؟.

نعم، هو توجُّهٌ استراتيجي لا يقلّ خطورةً عما كان عليه الحال في فترة جورج بوش الإبن الأولى، وفي فترتي باراك أوباما. أو ستقولون: بل نحن هاجمنا ميليشيات إيران في سورية، وفرضنا عقوبةً على اثنين من قادة الحوثيين. لكن في الحالتين وجدتم أنفسكم في حاجةٍ إلى تبرير فقلتم إنّها إجراءات محدودة ومحسوبة. وها هم الإيرانيون قد هاجموا قاعدة عين الأسد، فلم تردّوا حتّى بهجوم محسوب أو محدود. وفي أحد يومي 26 أو 27 شباط الفائت كان مبعوثكم ليندركنغ يتفاوض مع مندوب الحوثي في مسقط بحسب وسائل الإعلام الأميركية.

هو توجُّهٌ استراتيجي للإضعاف ولاستهداف المملكة والعرب، أما المفاوضات والاتفاق فهي آتية على كلّ حال. منذ عقود تتمثل استراتيجية إيران في ضغوط التخريب في كل مكان للحصول على ما تريد منكم، وقد حصلت في كلّ مرة على ما تريد في العراق وفي سورية وفي لبنان وفي اليمن، فلماذا لا تطمع في النجاح هذه المرة أيضاً بحكم التجارب السابقة؟!

وتقولون إنّ سياسات ترامب في الضغط الشديد لم تنجح ولذلك عمدتم إلى تغييرها. لكن من قال إنها لم تنجح؟! فقد اتجه الحزب الإيراني المسلّح في لبنان للدخول في مفاوضات على ترسيم الحدود مع إسرائيل، وأوقف الإيرانيون هجمات ميليشياتهم بالعراق بعد اغتيال قاسم سليماني لأنّ ترامب قال لهم: “كلّ ضربة بضربات، خصوصاً إذا مات أميركي واحد”. وقد ترجّوا الأوروبيين مرات للتوسّط.

من حقّ كل دولةٍ ان تفكر وتعيد التفكير في مصالحها ومستقبلها، ولا أحد في هذه الأيام يضع بيضه في سلّةٍ واحدة. والذي يبدو أنه لا حظّ للعرب لا مع يمين أميركا ولا مع يسارها


ولنذهب من الاستراتيجي إلى التقني والفني كما يُقال. في مقتل المواطن السعودي جمال خاشفجي على أرضٍ سعودية، حاكمت السلطة القضائية بالمملكة أكثر من عشرين من المشتبه بهم، وأصدرت أحكاماً بالإعدام على البعض منهم. وقد ظننتم أنّ إدارة ترامب كانت تجامل سلطات المملكة في عدم الأخذ بتقرير المخابرات أو نشره. ويومها قال وزير الخارجية السابق بومبيو إنّ التقرير لا يصلح للإدانة، وقد نُشر التقرير الآن فإذا هو مجموعة من الآراء والاجتهادات كأنها منقولة عن وسائل الإعلام. ولذلك عاد بومبيو إلى التعليق على قصة خاشقجي وعلى سياساتكم تجاه إيران بأنها غير احترافية، وتعمل لغير صالح الولايات المتحدة. ثم أردتم إصدار حكم بدون تحقيقٍ أو محاكمة فرضتم عقوبات على مَنْ حاكمه القضاء السعودي لا غير، وزدتم في الانحياز الانتقامي بمطالبة السعوديين بحلّ جهازٍ أمني داخلي، كأنكم تتعاملون مع دولةٍ بدون سيادة. وهذا كلُّه مرةً ثانيةً وثالثةً انتقامٌ أو ما يشبهه ولا علّة له إلاّ الكراهية التي لا ندري سبباً مفهوماً لها.

فالأمر كما قال الامير بندر بن سلطان، مدير المخابرات السعودية السابق، في مقابلته مع موقع “أساس” قبل أيام: “كلّه كلام سياسي وإجراءات سياسية”. وأضيف أنّه لا علاقة لذلك كله بالحرص على حقوق الإنسان.

لقد جاء الردّ السعودي والخليجي والعربي على إجراءات بايدن هادئاً وعاقلاً. ففي الوقت الذي يقول بأنّه لا حقّ لأحدٍ بالتدخل في الشأن الداخلي، يمضي التقرير إلى أنّ العلاقات مع الولايات المتحدة تاريخية واستراتيجية ومتينة، والأمل والعمل أن تستمرّ العلاقات بين الجانبين على الوتيرة نفسها.

إقرأ أيضاً: أميركا: الخطر الخارجي فقط ينعش الهويّة الوطنية؟ (1/2)

إنّ أمر العلاقات مع الولايات المتحدة أبعد من واقعة الصحافي القتيل، وحتّى من واقعة اليمن. إنّها قضايا كبرى ومتعدّدة في المصالح المشتركة والأمن في البرّ والجوّ والمضيق والمحيط وبناء الدولة الحديثة والمعاصرة. لكنّ العالم ما عاد ضيّقاً ولا حكراً على سطوة هذا الطرف أو ذاك. ومن حقّ كل دولةٍ ان تفكر وتعيد التفكير في مصالحها ومستقبلها، ولا أحد في هذه الأيام يضع بيضه في سلّةٍ واحدة. والذي يبدو أنه لا حظّ للعرب لا مع يمين أميركا ولا مع يسارها.

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…