14 شباط 2005: الثابت والمتغيّر

تغيّر الكثير في لبنان منذ ظهيرة 14 شباط 2005 ولم يتغيّر شيء. بهذه العبارة يمكن، من وجهة خاصّة، اختصار المأساة اللبنانية المستمرة. حقبة 16 عامًا، أي أطول من التاريخ الرسمي للحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990، بعام كامل، انقضت كأنّها أمس الذي مضى. تغيّر فيها الكثير ولم يتغيّر أيّ شيء في الوقت نفسه.

في مبتدئها قتل الرئيس رفيق الحريري. في راهنها قتل لقمان سليم. وبينهما قُتل أحبّة كثر من أعلام النخبة اللبنانية شديدة التنوع وبالغة الثراء.

16 عاماً شهدت انتفاضتين شعبيتين كبيرتين عامي 2005 و2019، توسطتهما انتفاضة أصغر عام 2015. تراوحت المطالب بين شعار السيادة وإنهاء الوصاية السورية وكشف الحقيقة في جريمة اغتيال الحريري عام 2005 وبين معالجة ملف النفايات وخدمات عامة أخرى عام 2015، لتتحوّل عام 2019 إلى مطالبة جذرية بإسقاط كامل الطبقة السياسية رفضاً للفساد والزبائنية والفشل والانهيار الاقتصادي.

تغيّر الكثير. ضعفت أحزاب الطبقة السياسية وتضاءلت قدرتها على طرح نفسها كمصادر موضوعية للحكم الرشيد. عانت وتعاني حتى الأحزاب الأبعد عن تهم الفساد والزبائنية كالقوات اللبنانية والكتائب. الحريرية استكملت تحوّلها من قصة نجاح مبهرة إلى تراجيديا فشل مروعة. نبيه بري بلا وريث، سياسي أو بيولوجي، يحمل بعده لواء حركة أمل، أو صورة التعدّد المزيف داخل التيار الحاكم للطائفة الشيعية والمسمّى “الثنائي الشيعي”. وليد جنبلاط يحاول التعايش مع نبوءته عن صيرورة الدروز كالهنود الحمر، من دون أن يملك للطائفة أقفاً أو مشروعاً ومن غير أن يطمئن أنّ وريثه سيرث. أما العونية السياسية فصارت في عيون أغلبية لبنانية ساحقة مرادفاً لسوء الطالع ومختبراً للرثاثة السياسية والشعبية والإدارية والأخلاقية. وأما حزب الله، الذي نجح في اختراق البيئات غير الشيعية بانتحال صفة المقاومة، ما عاد له خارج الحيز الشيعي المباشر سوى بعض من سقط متاع الطوائف الأخرى، وفلول الحثالة العونية.

في مبتدئها قتل الرئيس رفيق الحريري. في راهنها قتل لقمان سليم. وبينهما قُتل أحبّة كثر من أعلام النخبة اللبنانية شديدة التنوع وبالغة الثراء

ما تغيّر أيضاً عبر الانتفاضات الثلاثة هو دخول جيلين جديدين إلى هموم الشأن العام اللبناني من منافذ مختلفة عن منافذ الأحزاب التقليدية، وبخطاب ومفردات وأدوات ما عهدتها الأحزاب الآنفة الذكر، والأهم بتصورات عن الدولة والخدمات والسياسة والعلاقات مقطوعة الصلة بما عهدته الأحزاب والتيارات المتهالكة.

ما لم يتغيّر، منذ رفيق الحريري وحتّى لقمان سليم، هو سياسة القتل التي حوّلها حزب الله إلى أم المؤسسات السياسية والأمنية والقضائية، في لبنان، والتي لها الكلمة الفصل حين يلحّ الفصل ويأتي أوانه.

الرد علي السيادة يكون بقتل السياديين. والرد على مطلب الحقيقة يكون بقتل المطالبين بها. والرد على سعاة هدم هيكل الفساد يكون بقتل الساعين أنفسهم وحرق خيامهم، ولقمان سليم، بالمناسبة، وجه من وجوه 17 تشرين الرئيسيين ورائد ورش بين ورشها الكثيرة.

القتل هو ما لم يتغيّر. القتل الذي منع الولوج من ما بعد اغتيال الحريري إلى تأسيس لبنان ما بعد هدم الوصاية الأسدية. والقتل منع أن تكون الحقيقة باباً للمصارحة والمصالحة. بل حاول القتل منع الحقيقة نفسها. القتل، أو التهديد به، منع لبنان من الانفصال الموضوعي عن حرائق الإقليم، وأدخل البلاد في متاهة المقاطعة والحصار. والقتل تالياً، أكان قتل اللبنانيين أم السوريين أم العراقيين أم اليمنيين منع الاقتصاد من الصمود، حتى بمرتكزاته موضع السؤال والشك.

تغيّر الكثير ولم يتغيّر القتل. لم يتغيّر السجال التافه بعد القتل والذي يبدأ من التنصل من الجريمة لينتهي بتحميل الضحية مسؤولية موتها، وأحياناً لا يتوقف قبل مطالبتها بالإعتذار. وعليه فأيّ باب للبحث الجاد بأيّ حل للمسألة اللبنانية لا يمكن أن يبدأ إلا من أداة الجريمة المتمادية والمفتوحة منذ 14 شباط 2005 (والأدقّ منذ محاولة اغتيال مروان حمادة في 2004). لا حل لا يبدأ من السلاح والمصارحة المسؤولة بشأن الدور الدموي والكلفة الوطنية الباهظة للسلاح وحامله.

ولكن لنكن صريحين. لن يبدأ هذا النقاش الجاد حول السلاح إلاّ قسراً، وهو ما حاول اللبنانيون تفاديه منذ 2005 حتى اليوم. ولن تتوفّر للبنانيين، للأسف، فرصة التفاهم الوطني المسؤول حول السلاح، لا ضمن استراتيجية دفاعية ولا غيرها. ولا تتوفّر منصة عربية أو إقليمية أو دولية ضمن الشروط الموضوعية الراهنة لاستضافة نقاش مثمر حول السلاح وموقع حزب السلاح في اللعبة الداخلية كما في اللعبة الإقليمية.

ما لم يتغيّر، منذ رفيق الحريري وحتّى لقمان سليم، هو سياسة القتل التي حوّلها حزب الله إلى أم المؤسسات السياسية والأمنية والقضائية، في لبنان، والتي لها الكلمة الفصل حين يلحّ الفصل ويأتي أوانه

لبنان ببساطة شديدة دولة محتلة من مشروع صراعي عابر للحدود الوطنية، لا شيء في أفق خطابه أو نخبته يوحي أنّه قيد المراجعة، ولا شيء يقنع في تجربته أنّه يفهم إلاّ لغة القسر، منذ الموافقة الجبرية للخميني على القرار 598 لوقف الحرب العراقية الايرانية وتجرّع كأس السم إلى مشهد المهانة والاذلال الذي صاحب السنوات الأربعة من حكم دونالد ترامب والتي توّجها بالاغتيال العبقري لقائد فيلق نشر الشر قاسم سليماني.

يملك اللبنانيون القدرة على الاعتراض الذي يحفظ لهم كرامتهم كبشر، مع الإدراك المسبق أنهم يدفعون ثمن بشريتهم بين الحين والآخر دماً مستباحاً كدم لقمان سليم. ولكنهم لا يملكون القدرة على تغيير الشأن الذي لا تغيير حقيقي من دون تغييره، وهو إحالة سلاح الجريمة المتمادية على التقاعد.

إقرأ أيضاً: بس العالم مجرم يا لقمان…

تبدو المطالبة بوصاية دولية على لبنان مطلبًا مغرياً، مع العلم المسبق أنّ دونها عقبات موضوعية وعملية لا حصر لها. أقصى ما بادر العالم تجاهنا به هو نصف الوصاية الفرنسية على شكل محاولة استيلاد قيصرية للحكومة، مسنودة بورقة شروط مصرية وبمقاطعة خليجية قاسية. والراجح أنّ الولادة ستظلّ ممتنعة، حتى يحين إمتحان الفراغ الرئاسي إما بوفاة الرئيس وإما بإنتهاء ولايته الدستورية. حينها ستدخل الأزمة اللبنانية منعطفاً جديدًا يستنزف القدرة على الحلول الجزئية كتلك التي يدفع بإتجاها الفرنسيون.

وإذا ما وُفّقنا إلى حلّ ترقيعي آخر، أيّ حلّ لا يبدأ من السلاح، لن ينتج عنه ما يقيم لبنان من سقوطه.

لا خلاص أمام اللبنانيين إلاّ بحلول قسرية، جذرية، بالغة الأكلاف، على ناسه وعمرانه، وهو ما تتبلور ظروفه على وقع البحث في السؤال الأم: ماذا سيفعل العالم مع إيران؟

 

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…