بس العالم مجرم يا لقمان…

تعود الحكاية إلى مبتدأ الملل. قتل لقمان سليم. الرجل المقتول منذ زمن بعيد، ظلّ يسير بهامة مرفوعة كنصل. بجبين أعرض من فضيحة الاغتيال وأوضح من جبن القاتل. كان على موعد غامض مع الرصاصات التي اخترقت رأسه، بعد مقدمات كثيرة.

ثمّ تعود الحكاية. النفي المقيت. الاستنكار الذي يفحّ برائحة العفن المقيم في نفوس تكلّست بالزيف. الصمت الذليل عن عُرِي الإمبراطور، الذي فضحه لقمان بطفولية لم تغادر سعيه وكدّه. التذاكي في نحت الافتراضات وتدبيج السياقات الموصلة إلى الموت المعلن، والقاتل المعلن… مبتدأ الملل…

أيّ قدر هذا أن يطعن في قيمة الرجل وهو حيّ يلتحف الجنوب مقصداً، والضاحية مقاماً، ثمّ يطعن في جرأته وهو يسلّم النفس الأخير على صلصال الجنوب؟!

قيل إنّ لا شأن للقمان، ولو كان له، لما عفَّ عنه حزب الله كل هذا الوقت. ثمّ سقط قتيلاً برصاص معلن. فقيل لولا أنّه مغامر أرعن لما وقف في جفن الردى عالماً بما في نفوس المتربّصين بعمره. هل قتله فائض الجرأة أم أحياه انعدام القيمة والوزن؟ وكيف يستوي الرأيان معاً، مرّة في تفسير الحياة وأخرى في تفسير الموت؟

أيّ قدر هذا أن يطعن في قيمة الرجل وهو حيّ يلتحف الجنوب مقصداً، والضاحية مقاماً، ثمّ يطعن في جرأته وهو يسلّم النفس الأخير على صلصال الجنوب؟!

يسقِط الموت عن القتيل الحقّ بالكلام. الاغتيال هنا محو تام للنصّ وصاحبه. إنّه الرقابة في حالتها القصوى. ولقمان ونصّه صنوان. اللغوي والبصري والأرشيفي والشفهي. الفكرة والرأي. اللمعة والتحليل. الموقف والصوت الذي يغدو رنيناً مقيماً في الأذنين، كأنّه عذاب أليم.

يظلّ الواحد منّا، ولقمان أوّلنا دائماً، مُطارَداً بقدح قيمته الفكرية والثقافية والسياسية بدليل البقاء على قيد الحياة. ويصير الواحد منّا، ولقمان أوّلنا دائماً، مُداناً بتهمة الشجاعة بعد القتل. الغائب هنا هو موقع القاتل وتوقيعه. النقاش يتمحور حور المقتول نفسه، الذي ما استحقّ الحياة إلاّ بسبب نقص القيمة، وما استحقّ الموت إلاّ بسبب فائض الجرأة.

هذه الثنائية القاتلة مهمومة بتغييب القاتل. بترحيل السؤال عن السفّاح ومحاكمة الضحية.

وهي تمهيد موضوعي لعمل المخيلة والإطمئنان لحياكة نسيج خاصّ من الوقائع البديلة، التي لا يهم مدى انطباقها على الواقع بقدر أهمية اتّساقها مع نظريات المؤامرة.

هب أنّ مؤامرة ما تقيم بالفعل بين طيّات هذه الجريمة. وهب أنّ عدواً إقتنص فرصة الإنقضاض على لقمان لتوريط من لا صلة له بقتله. كيف يمكن لإسرائيل أن تلصق تهمه قتل لقمان سليم بحزب الله ما لم يكن حزب الله قد مهّد بكل ما أُوتي من أسباب لأن يلبسه ثوب الجريمة؟ هل استنكر الحزب العدوان المنظّم على سمعة سليم من قبل “إعلامه” كما من قبل “كتائب الاهالي” التي يحرّكها؟ هل زار مسؤول من الحزب “البريء” دارة آل سليم متنصّلاً من الإسفاف العابث بسمعة البيت وأهله؟

أياً تكن صفة من ضغط على زناد الجبن والغدر، فقد مهّد له حزب الله الطريق وشدّ على يده. وأيًا تكن الجهة التي قرّرت شطبه من معادلة الحياة فهي نفّذت ما أوحى الحزب بضرورة حصوله، حصولاً معللاً بسيل التهم والتشهير.

ألسنا بإزاء بيئة تتبنّى الجرائم قبل حصولها، وتحتفل بموتنا قبل قدومه؟ أليست الدعوات لأن يلقى من مثل لقمان المصير نفسه، استجداءً للقتل وحثّاً عليه؟ لماذا تعطون إسرائيل الحجج لأن تنفّذ رغباتكم المعلنة وأمانيكم المضاءة بفحيح وضّاح؟

يسقِط الموت عن القتيل الحقّ بالكلام. الاغتيال هنا محو تام للنصّ وصاحبه. إنّه الرقابة في حالتها القصوى. ولقمان ونصّه صنوان. اللغوي والبصري والأرشيفي والشفهي. الفكرة والرأي. اللمعة والتحليل. الموقف والصوت الذي يغدو رنيناً مقيماً في الأذنين، كأنّه عذاب أليم

ما يدهش في قتل لقمان سليم ليس القتل بحدّ ذاته، بل تلك العلنية بتنفيذ أحكام القهر وتلك الوقاحة في مهر الجثة بأسماء القتلة.

لقمان قُتِلَ كثيراً كثيرًا قبل أن يُقتل أخيرًا، وهنا بيت القصيد، كما قُتِلَ من قضوا قبله ومن ينتظرون نحبهم!

وأما بعد،

لا يسعني أيها الصديق المظلوم أن اندرج في موجة البطولة الثقيلة.. قتلك خسارة بحجم السماء، لا يردّ جمرها عن القلب أنّ أفكارك ستعيش بعدك.. موتك يلسع النخاع ويهدّ جدران الروح.. شيءٌ كثيرٌ هزم في داخلي لحظة أنبئت بالعثور على جثمانك..

إقرأ أيضاً: سيرة الضاحية… التي حماها لقمان من النسيان

لا عزاء بعدك بأنّنا سنستمرّ، أقولها بصوت خفيض، منهك، بعد أن كبرت على هذا الوهم وأنا أحصي سنوات العمر بعدد الراحلين وأسمائهم الحسنى..

ولا كرامة في مساجلة القاتل بالعقل.. فالرصاص لا يُواجَه بغير الرصاص.. ودمُك لا يُواجَه بغير الدم.. ونحن، في هذا المضمار، كما تعلم، تعوزنا الرغبة والقدرة… سنظلّ نقول ما نقول لا إيماناً بأنّنا سننتصر، بل لأنّنا لا نملك سوى ما نقول لنخفّف به وطأة الظلم..

في الختام كلام للنبيلة الشامخة كشراع، المكسورة كصلاة حبيسة، أمُّك، إذ تقول:

“.. بعدين الدنيا بتعارضنا فبننكفىء بنقعد في بيتنا بنقرا ومنكتب ونحلّل، مش ضروري نعرض نفسنا.. العالم صعب لكن العالم مش لازم يكون مجرم..”

بس العالم مجرم يا لقمان..

 

 

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…