الدستور وبكركي: قبّة رئيس الجمهورية الحديدية

يواجه رئيس الجمهورية ميشال عون منذ مدّة، دعوات صريحة تطالبه بالاستقالة. لا وجود لتعبير “إقالة” في قاموس الناقمين على سيد قصر بعبدا. فعلياً، المبادرة الذاتية للاستقالة هي الباب الوحيد المُتاح دستورياً لشغور موقع الرئاسة الأولى قبل انتهاء الولاية السداسية. غير ذلك، لا يمكن لأي ضغط، سواء كان من طبيعة دستورية أو سياسية، أن يفرض على الجالس على كرسي بعبدا أن يغادر موقعه بالإكراه. هي خطوة طوعية، إذا ما قرّر صاحبها الإقدام عليها بسبب شعوره بالعجز عن إكمال ولايته لأيّ سبب كان. غير ذلك، لا ينصّ الدستور اللبناني على سيناريو بديل.

عام 1952، أجبِرَ رئيس الجمهورية بشارة الخوري على الاستقالة بعد مظاهرات ضخمة. ولخوفه من تفاقم الأمور استدعى قائد الجيش فؤاد شهاب، وقدّم إليه استقالته بعدما كلّفه بتشكيل حكومة عسكرية تتولّى إجراء انتخابات رئاسية.

في المقابل، لم تنجح تظاهرات قوى الرابع من عشر من آذار في دفع إميل لحود إلى مغادرة قصر بعبدا ودفعه إلى الاستقالة، واستند الى دعم حلفائه في محور الثامن من آذار لكي لا يوقّع وثيقة استقالته تحت ضغط الشارع… فضلاً عن “فيتو” بكركي. وقد تبيّن لاحقاً أن الفيتو البطريركي استند إلى طلب من نظام حسني مبارك، خوفاً من “دومينو” تهاوي الرؤساء العرب. وأنّ البطريرك صفير كان ميّالاً إلى المضيّ في طلب استقالة لحّود.

راهناً، تتجدّد مشهدية الضغط على رئاسة الجمهورية. سبق لوليد جنبلاط أن قاد الحملة بوجه إميل لحود، وها هو ينقّحها بوجه ميشال عون متّكئاً إلى “صرخة” مطران بيروت بولس عبد الساتر. وأعلن حديثاً في حديث تلفزيوني: “بعد هذا الفشل عليه أن يتيقّن من أنّه فشل”، لافتاً إلى أنّه طرح موضوع استقالة الرئيس: “لكنّ المؤسسة المارونية، أي البطريرك الراعي، وسمير جعجع وغيرهما قالوا هذا خطّ أحمر”، مذكّراً بموقف البطريرك الراحل نصر الله صفير “عندما طرحنا الصعود إلى بعبدا في عام 2005 وقال إنّها خطّ أحمر”.

لم تنجح تظاهرات قوى الرابع من عشر من آذار في دفع إميل لحود إلى مغادرة قصر بعبدا ودفعه إلى الاستقالة، واستند الى دعم حلفائه في محور الثامن من آذار لكي لا يوقّع وثيقة استقالته تحت ضغط الشارع

لكن سرعان ما لاقاه زعيمان مارونيان. سليمان فرنجيه قالها بصراحة: “من يحبّ الرئيس عون عيله أن يقول له: ارحل”، مضيفاً: “لو كنتُ رئيساً للجمهورية في هذه المرحلة لتنحّيت”. كذلك فعل سمير جعجع داعياً اياه للتنحّي، وتوجّه إليه بالقول: “لو كنتُ مكان رئيس الجمهورية لاستقلت”، مضيفاً: “على كلّ المجموعة الحاكمة التنحّي”.

في كلا المشهدين تقف البطريركية المارونية بالمرصاد لهذا الخيار وتتصدى لسيناريو “إشغار” الرئاسة الأولى بـ”القوّة”. سبق للبطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير أن قال “لا” بوجه الناقمين على الرئيس إميل لحود، ورفض في العام 2005 الدعوات الى استقالته وإسقاطه في الشارع، على رغم العلاقة المتوترة بين القصر الجمهوري وبكركي طيلة العهد. وها هو البطريرك بشارة الراعي يؤكد رفضه دعوات استقالة الرئيس عون، مشيراً إلى أنّ “الرئيس لا يعامَل بهذا الأسلوب، بل وفق الأصول الدستورية”.

بالعودة إلى أحكام الدستور يتبيّن جليّاً، وفق ما يقوله الوزير السابق زياد بارود لموقع “أساس” أنّ المادة 60 (المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 21/1/1947) من الدستور هي وحدها التي تتحدث عن حالة الإقالة وهي تنصّ على الآتي: “? تبعة عل? رئ?س الجمھور?ة حال ق?امھ بوظ?فتھ إ? عند خرقھ الدستور أو في حال الخ?انة العظم?. أما التبعة ف?ما ?ختصّ بالجرائم العاد?ة فھي خاضعة للقوان?ن العامة”.

ويشير إلى أنّ حالة الخيانة العظمى واضحة في تفسيرها ولا يمكن الاجتهاد فيها لإسقاطها على حالات أخرى. وبالتالي لا يمكن اللجوء إليها في وضعنا الراهن لإقالة رئيس الجمهورية.

تقف البطريركية المارونية بالمرصاد لهذا الخيار وتتصدى لسيناريو “إشغار” الرئاسة الأولى بـ”القوّة”. سبق للبطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير أن قال “لا” بوجه الناقمين على الرئيس إميل لحود

وفي هذا السياق أيضاً، كتب الخبير الدستوري سعيد مالك أنّ “تحوّلاً جذريّاً طرأ على دَور رئيس الدولة بعد “اتفاق الطائف”، ويظهر ذلك في الموقع الجديد الذي مُنِحَ لرئيس الجمهورية، الذي كرّسته أحكام المادة /49/ من الدستور. فالمادة /49/ من الدستور نَصّت حرفيّاً، على أنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يَسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه”.

إقرأ أيضاً: عذراً فخامة الرئيس استقالتك هي الحلّ

ويؤكد أنّ الدستور لم يأتِ على ذِكر أي حالة تتعلّق بإقالة رئيس الجمهورية، أو تقصير ولايته، إنما فقط تناوَلَ صراحةً حالة انتخاب الخَلَفْ عند خُلو سدّة الرئاسة، بحيث نصّت المادة /74/ من الدستور على ما حرفيّته :”إذا خَلَتْ سُدّة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو لسبب آخر، فلأجل انتخاب الخَلَفْ يجتمع المجلس فَوراً…”.

ويختم بالتأكيد: لقد تطرّق الدستور إلى حالة وفاة الرئيس أو استقالته الطوعية، أو أي سبب آخر يُقدّر في حينه، من دون سواها من الحالات. ما يُفيد أنّه حتّى لو أُجريَت انتخابات نيابية مُبكِرة، وانبثق من هذه الانتخابات مجلس نيابي جديد، فإنّ هذا المجلس يبقى عاجزاً عن إقالة رئيس الجمهورية، الذي يستمرّ في ولايته حتى انتهائها، من دون أي اجتهاد أو تفسير على الإطلاق. فَعَدا الإستقالة الطوعية، فلَن تقوى على موقع الرئاسة الأولى الصعاب، حتى الآن.

إقرأ أيضاً

“سابقة موريس سليم”: الطعن بتعيين رئيس الأركان!

 سجّل وزير الدفاع موريس سليم سابقة لم تعرفها حكومات ما قبل الطائف ولا بعده من خلال الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار تعيين رئيس الأركان…

نقابة المهندسين: لماذا تعاقب طرابلس تيار المستقبل؟

عقب عودة الرئيس الحريري النسبية إلى الأجواء السياسية في ذكرى 14 شباط، أراد تيّار المستقبل تدشين عودته إلى الملعب السياسي عبر بوّابة انتخابات نقابة المهندسين،…

الحزب لباسيل: الكلمة للميدان!

لم تلقَ رسالة النائب جبران باسيل إلى الدول الأعضاء في مجلس الأمن أيّ ردّ علني حتى الآن من الحزب في شأن الدعوة إلى صدور “قرار…

ماذا يحدث في “القنوات الخلفيّة” بين واشنطن وطهران؟

لا تتعلّق حسابات واشنطن فقط بشكل الرّدّ الإيرانيّ على قصف قنصليّة طهران في دمشق. إذ ترتبط أيضاً بشكلِ الرّدّ الإسرائيليّ على الضربة الإيرانيّة ليل السّبت…