هيكلة غير منظمة لقطاع التأمين: الزبون “على باب الإفلاس”


حتّى اللحظة، تركّزت جميع النقاشات عن عمليّة التصحيح المالي، حول ما يحتاجه القطاع المصرفي من إعادة رسملة وإعادة هيكلة، لإرتباطه الوثيق بأزمتي الدين العام ومستوى احتياطات العملة الصعبة في مصرف لبنان. لكنّ قطاعات أخرى، كقطاع التأمين مثلاً، أصابها الانهيار المالي بضربات لا تقلّ وطأة عن الضربة القاسية التي تلقتها المصارف، فيما فاقم من سوداويّة المشهد انفجار مرفأ بيروت وما رتّبه من التزامات على شركات التأمين لم يُدفع معظمها بعد. أما مخاطر هذه الضربات، فتبدأ بأثرها على الأمن الصحي والإجتماعي وقدرة الشركات على تغطية أصحاب البوالص، وتنتهي بمصير البرامج الادخاريّة التي يشترك فيها أصحاب البوالص. باختصار، قطاع التأمين في طريقه إلى إعادة الهيكلة أيضاً، لكنّها كما يبدو ستكون عمليّة إعادة هيكلة تلقائيّة وغير مقوننة أو منظّمة، نظراً لغياب الاهتمام الرسمي بهذا الملف، مقارنةً بغيره من الملفات المرتبطة بالانهيار المالي.

وفقاً لأرقام لجنة الرقابة على شركات التأمين، ثمّة ما يقارب 2 مليار دولار من التوظيفات التي قامت بها الشركات لاستثمار الأموال التي تلقّتها من بيع البوالص. عمليّاً، وظفت الشركات 58% من هذه الأموال في الودائع المجمّدة في النظام المصرفي بالليرة اللبنانيّة والدولار الأميركي، فيما تركّزت 20% منها في سندات اليوروبوند التي تخلّفت الدولة اللبنانيّة في شهر آذار الماضي عن سدادها، وتركّزت 21% منها في حسابات مصرفيّة جارية بجميع العملات.

بمعنى آخر، تعاني شركات التأمين اليوم من ترابط مخاطرها وأزمة سيولتها مع مخاطر وأزمات النظام المصرفي جهة، ومع المخاطر المتعلّقة بتعثّر الدولة اللبنانيّة في سداد ديونها من جهة أخرى. وبذلك فإنّ عمليّة التصحيح المطلوبة في القطاع المالي أو المصرفي بشكل عام، ستحتاج إلى عمليّة تصحيح موازية في قطاع التأمين، كما يصبح من الواضح أن أزمة اللبنانيين مع معظم شركات التأمين اليوم ترتبط بتشابك أزمتي المصارف وشركات التأمين.

تعاني شركات التأمين اليوم من ترابط مخاطرها وأزمة سيولتها مع مخاطر وأزمات النظام المصرفي جهة، ومع المخاطر المتعلّقة بتعثّر الدولة اللبنانيّة في سداد ديونها من جهة أخرى

أرقام اللجنة نفسها تشير إلى أن بوالص التأمين في لبنان بلغت حدود 1.67 مليار دولار، 41% منها جرى إصداره على شكل بوالص تأمين طبيّة، و31% منها جرى إصداره على شكل بوالص تأمين على الحياة، فيما توزّعت النسبة الباقية على أشكال التأمين الأخرى من تأمين على المركبات والمنازل والمستودعات والأنشطة التجاريّة وغيره. بمعنى آخر، ثمّة حساسيّة استثنائيّة في هذا الملفّ، نظراً لإرتباط الغالبيّة الساحقة من البوالص، أي نحو 72% تحديداً، ببوالص حسّاسة على المستوى الإجتماعي والمعيشي، من ناحيتي التغطية الصحيّة وتعويضات الوفاة.

يشير العديد من الخبراء الماليين إلى أنّ لبنان لم يشهد أساساً نشأة قطاع تأمين تنافسي ومتين من ناحيتي الرسملة والخدمات التي يقدّمها. فغالبيّة رساميل القطاع مرتبطة عمليّاً بشركات تأمين مملوكة من مصارف أو مجموعات مصرفيّة، أو من أصحاب المصارف أنفسهم، وقد جرى إعطاء الشركات أدواراً مكمّلة لخدمات القطاع المصرفي نفسه، كعقد بوالص التأمين على السيارات والمنازل التي يتم شراؤها بموجب قروض مصرفيّة، أو عقد بوالص تأمين على الحياة للمقترضين من المصارف. ولهذا السبب تحديداً، ارتبطت توظيفات شركات التأمين أيضاً بالقطاع المصرفي ومخاطره، ولم تبادر الشركات طوال الفترة الماضية إلى الإبقاء على نسبة وازنة من الاستثمارات أو التوظيفات الآمنة في الخارج، وهو ما يشكّل اليوم أحد أسباب الأزمة الحقيقيّة.

لم تتعامل الدولة مع القطاع أساساً بوصفه قطاعاً مستقلّاً ينبغي أن يحافظ على ملاءته واستقلاليته من ناحية الرساميل، بدليل حجم الرساميل الهزيل المطلوب لتأسيس شركة تأمين جديدة، الذي لا يتخطى 1.5 مليار ليرة (مليون دولار على سعر 1500 ليرة)، في حين أن الرساميل المطلوبة لتأسيس شركة تأمين جديدة في دول الخليج مثلاً لا يقل عن 30 مليون دولار.

على أيّ حال، أصبح من الواضح أنّ أزمة القطاع بدأت تأخذ طريقها للظهور من خلال مشاكل أصحاب البوالص مع الشركات، ومنها على سبيل المثال مبادرة بعض الشركات إلى دفع قيمة الأضرار الناتجة عن الحوادث بالليرة وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، في حين أن شركات التأمين نفسها تتقاضى التعويضات عن هذه الأضرار بالدولار الطازج من شركات إعادة التأمين في الخارج. كما لجأت بعض الشركات إلى استسهال تضخيم كلفة أضرار الحوادث، بهدف التعويض عن ثمن المركبات بالليرة ووفقاً لسعر الصرف الرسمي، بدل دفع قيمة إصلاح الأضرار بالدولار النقدي.

لم تتعامل الدولة مع القطاع أساساً بوصفه قطاعاً مستقلّاً ينبغي أن يحافظ على ملاءته واستقلاليته من ناحية الرساميل، بدليل حجم الرساميل الهزيل المطلوب لتأسيس شركة تأمين جديدة، الذي لا يتخطى 1.5 مليار ليرة (مليون دولار على سعر 1500 ليرة)

وفي المقابل، لا تزال غالبية الشركات تمتنع عن سداد قيمة الأضرار الناتجة عن انفجار المرفأ، بإنتظار التقرير الذي سيظهر أسباب الإنفجار. لكنّ الكثير من المصادر المواكبة للملف تشير إلى أن شركات عديدة ستواجه صعوبات في ما يتعلّق بالدفع، حتّى بعد إصدار هذا التقرير، خصوصاً أن بعض الشركات التي لم تقم بإعادة تأمين المخاطر، وهو ما يعني أنّها ستحتاج إلى تغطية هذه الأضرار من رساميلها واحتياطاتها.

إقرأ أيضاً: اختفاء ثلثي اقتصاد لبنان: عدنا 26 سنة إلى الوراء

في الخلاصة، سيحتاج القطاع بأسره إلى عمليّة إعادة هيكلة شاملة تفضي إلى تقليص عدد الشركات الموجودة، خصوصاً أن تكاثر عدد الشركات الذي شهده القطاع في السنوات الأخيرة على حساب رساميل الشركات وملاءتها لم يكن منطقياً. مع العلم أن مقارنة عدد الشركات بحجم السوق يظهر أن لبنان شهد بالفعل تضخّماً غير طبيعي مقارنة بعدد الشركات الموجود في دول الخليج أو دول شمال أفريقيا.

أما السؤال الأهم فسيرتبط بمصير البرامج الادّخاريّة التي اشترك بها جزء كبير من اللبنانيين في هذه الشركات لسنوات طويلة مضت، ومصير التغطية الصحيّة في حال تفاقمت مشاكل بعض شركات التأمين الماليّة. ولذلك، من الطبيعي السؤال هنا عن دور الدولة في ما يخصّ تنظيم عمليّة إعادة الهيكلة، وتنظيم عمليات دمج الشركات التي لن تستوفي معايير الملاءة المطلوبة. وهذا الدور لا يزال مغيّباً حتّى اللحظة.

إقرأ أيضاً

لماذا يرتفع سعر الذهب عالميّاً… وهل هو بديل مصارف لبنان؟

على الرغم من الانخفاض الذي شهدته أسعار الذهب في اليومين الماضيين، إلّا أنّ المؤشّرات المدعومة بتوقّعات الخبراء تفيد بأنّ هذا الانخفاض هو مجرّد “تصحيح مؤقّت”….

الانتظار والمماطلة: نعمة الطبقة الحاكمة ونقمة المواطنّ!

محطّات عدّة مرّت على لبنان، ولطالما عاكست الظروف التي واكبت هذه المحطّات مصلحة المواطن، وساهمت في إبقاء الأداء المشين لـ”الطبقة الحاكمة” على ما هو عليه….

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…