“لوموند” الفرنسية: مصرف لبنان “دولة داخل الدولة”، ممنوع اللمس أو الاقتراب


بقلم بنجامين بارث


المانحون الدوليون للبنان يرون أنّ، رئيس الجمهورية ميشال عون يتعاطى مع الأمر كأنّه مسألة شخصية، وحكومة حسان دياب، التي أطلقت هذه الورشة في شهر آذار، تواصل دعمها للتدقيق الجنائي، على الرغم من استقالتها منذ الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 آب. لكن، خلال واحدة من تلك الاختلالات المؤسسية التي باتت من اختصاص دولة الأرز، فإن التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، والذي يعدّ عنصراً أساسيّاً في إنقاذ اقتصاد البلاد، قد لا يرى النور.

يوم الجمعة 20 تشرين الثاني، أعلنت الشركة الأميركية Marsal &  Alvarez انسحابها، وهي التي كانت مكلّفة من قبل وزارة المالية اللبنانية تنفيذ هذه المهمة، وذلك بعد أن رفض مصرف لبنان فتح حساباته أمام مندوبيها، بحجّة السرية المصرفية. حاكم المصرف رياض سلامة، الذي لا يمكن عزله عن منصب يشغله منذ سبعة وعشرين عاماً، يقاوم هذه العملية بكل ما أوتي من قوة. فهي تهدف إلى إلقاء الضوء على إفلاس القطاع المصرفي، وتقدّر خسائره بنحو 68 مليار دولار (57 مليار يورو).

مصرف لبنان المركزي، “دولة مُعتِمة داخل الدولة”، لا يمكن المساس بها.. المؤسسة النقدية، المشتبه في أنها دبّرت هندسة مالية لمنفعة النخبة من بلاد الأرز، تسعى للتهرّب من فحص حساباتها وممارساتها

وزيرة العدل ماري كلود نجم، تواصل مثل نظرائها، إدارة الشؤون الوزارية، إلى أن يشكّل سعد الحريري الحكومة الجديد، خلفاً لحسان دياب، في مهمّة بدأت منذ نهاية تشرين الأوّل. تقول نجم: “هذه تعتبر صفعة على وجه الدولة اللبنانية. مصرف لبنان تحوّل إلى دولة داخل دولة، وهو يرفض تقديم حساباته. هذه إشارة سيئة للغاية، على أنّ المؤسسة لديها شيء تخفيه”.

ومع ذلك، فليس مبالغاً القول إنّ هناك حالة طارئة. أزمة السيولة التي اندلعت نهاية صيف 2019 أدّت إلى انهيار العملة الوطنية وإلى ارتفاع شديد في أسعار المواد الغذائية الأساسية. ونسبة السكان الذين يعيشون تحت خطّ الفقر ارتفعت من 30? في 2019 إلى 55? اليوم.


ممارسات ملتوية

على غرار فرنسا، فإنّ الدول الغربية والعربية التي واصلت إنقاذ لبنان على مدى السنوات العشرين الماضية، ترفض إخراج دفتر الشيكات الخاص بها، طالما أنّ هذا البلد لم يوقّع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي (IMF). والأخير الذي فاوضته الحكومة بدون نجاح خلال الربيع، يشترط أولاً سلسلة من الإصلاحات، بما في ذلك تدقيق حسابات مصرف لبنان.

ينقسم هذا التدقيق إلى ثلاثة جوانب:

الأوّل: جانب محاسبة بحت يعهد إلى شركة KPMG، ويهدف إلى معرفة دقيقة بميزانية مصرف لبنان.

والثاني: جانب “المطابقة” المنسوب إلى شركة أوليفر وايمان، للتحقّق من أنّ ممارسات المؤسسة النقدية لا تنحرف عن معايير البنوك المركزية.

والثالث: هو جانب  المحاسبة الجنائية لكشف الاختلاس المحتمل.

أطلقت حكومة حسان دياب هذه الإجراءات في نهاية آذار. كانت تستجيب لغضب الشارع الذي ألقى باللائمة على الأوليغارشية السياسية المالية. كان ذلك عملاً سياسياً شجاعاً يسجّل لحسان دياب، وهو الوافد الجديد على رقعة الشطرنج السياسي خلفاً لسعد الحريري، الذي دفعته احتجاجات خريف 2019 إلى الاستقالة.

من أجل تمويل عجز الموازنة والحفاظ على توازن الليرة اللبنانية مع الدولار، لجأ مصرف لبنان إلى ممارسات ملتوية وُصِفت بـ”الهندسات المالية”، وهي نظام صمّم لسحب الودائع بالدولار من البنوك التجارية، وبسعر فائدة مرتفع جداً، وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه بأنّه “هرم بونزي”.

 

مناطق رمادية

قبل تعجيلها بسقوط القطاع المصرفي، ضاعفت هذه الترتيبات من ثروات مساهمي البنوك، ومن بينهم عديد من السياسيين.

على غرار فرنسا، فإنّ الدول الغربية والعربية التي واصلت إنقاذ لبنان على مدى السنوات العشرين الماضية، ترفض إخراج دفتر الشيكات الخاص بها، طالما أنّ هذا البلد لم يوقّع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي (IMF)

وفقاً لصندوق النقد الدولي، في عام 2016 وحده، حقّقت “هندسة” مصرف لبنان أرباحاً للمصارف اللبنانية بقيمة 5 مليارات دولار، ما يعادل 10? من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، من دون أيّ مقابل للدولة.

تقرير تدقيق “كلاسيكي”، نفّذته في عام 2018 شركتا EY وDeloitte، وحصلت صحيفة “لوموند” على نسخة منه، يطرح عناصر إشكالية أخرى. يشير المدقّقون إلى أنّهم لم يسمح لهم بإجراء جردة لمخزون الذهب في مصرف لبنان، والذي بلغت قيمته 10 تريليون ليرة لبنانية في كانون الأول 2018 (5.5 مليار يورو). كما يشير التقرير إلى زيادة مشبوهة في أصوله، في حدود 6 مليارات دولار، بالاستناد إلى ممارسات محاسبية مشكوك فيها.

يشكّ منتقدو رياض سلامة في أنّ هذه المناطق الرمادية ليست سوى جزء ظاهر من نظام أكبر عاد بفائدته على النخبة اللبنانية. مصرف لبنان في أذهانهم هو صندوق باندورا النظام السياسي المفترس الذي تسبّب في مصيبة لبنان.

يقول الخبير الاقتصادي توفيق كسبار: “لقد تسلّل مصرف لبنان إلى جميع الدوائر الاقتصادية في البلاد، واستفادت منه الطبقة السياسة بشكل كبير”.

رياض سلامة الذي ردّ كتابيًا على أسئلة “لوموند” يردف قائلاً إنّ “مصرف لبنان قام بواجباته وعمل لصالح لبنان. العجز المزدوج الذي ولّد الضعف أو عجز الميزانية أو عجز الحساب الجاري ليسوا من مسؤوليته”. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، أكّد الحاكم أنّ “لبنان ليس دولة مفلسة”، وعزا الأزمة الحالية إلى التوترات الإقليمية. تصريح لم يستسغه اللبنانيون الذين لم يتمكّنوا من الوصول إلى ودائعهم المصرفية منذ عام تقريبًا.

 

نهاية “عدم الاستلام”

وبشأن التدقيق الجنائي، أكّد السيد سلامة لصحيفة “لوموند” أن “بنك لبنان تعاون مع Alvarez & Marsal”. لكنّ مسار الإجراءات يثير الشكوك. فمن خلال امتداده في المؤسسة اللبنانية، قام الحاكم بمضاعفة العقبات. أحد المخلصين له، رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل الشيعية نبيه بري، أفشل ترشيح أوّل شركة تدقيق أميركية، وهي Kroll، بإشارته إلى ارتباطها بإسرائيل. الشائعة لا أساس لها من الصحة، ولم تقلق حتّى حزب الله، الحركة الشيعية الموالية لإيران، والمعادية جدًا للدولة العبرية.

رئيس الوزراء المكلف وزعيم الطائفة السنية سعد الحريري يعارض أيضًا عملية التدقيق. موقف منطقي نظرًا لارتباطه بـBankmed وقربه من سلامة، الذي كان لفترة طويلة مدير المحفظة المالية لوالده رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005.

يشكّ منتقدو رياض سلامة في أنّ هذه المناطق الرمادية ليست سوى جزء ظاهر من نظام أكبر عاد بفائدته على النخبة اللبنانية. مصرف لبنان في أذهانهم هو صندوق باندورا النظام السياسي المفترس الذي تسبّب في مصيبة لبنان

يشير توفيق كسبار إلى أنّ “الرسالة الضمنية التي يبعثها رياض سلامة إلى الطبقة الحاكمة هي: إن غرقتُ، ستغرقون أيضًا”. و”الكارثة اللبنانية حلّت نتيجة عقود من سوء الإدارة والفساد بقيادة النخبة الأوليغارشية”، بحسب كاسبار.

على الرغم من الضغوط، فإنّ حكومة دياب صمدت. ففي تموز، رشّحت الحكومة Alvarez & Marsal للتدقيق. في بداية شهر أيلول، أرسلت هذه الحكومة إلى مصرف لبنان قائمة بـ129 طلبًا. كانت استجابة المؤسسة أقرب إلى عدم التجاوب. رفض المصرف تلبية 58? من طلبات الشركة الأميركية سواء كانت مالية (تقديم مستندات محاسبية) أو إدارية (تقديم قائمة موظفي مصرف لبنان منذ عام 2015) أو حتى لوجستية (تخصيص مكتب لمراجعي الحسابات).

علّق محلّل مالي طالب عدم الكشف عن هويّته: “أدركت Alvarez & Marsal أنّ الأمر سيكون أقرب للجحيم، ولهذا السبب تخلّت عن مهامها”.

في ردّه على صحيفة “لوموند”، يبرّر رياض سلامة موقفه بالمادة 151 من قانون النقد والتسليف التي “تمنع البنك المركزي من الكشف عن حسابات الآخرين المفتوحة لديه”. كما يدّعي أنّه طلب من وزير المالية تفويضًا كتابيًا لتسليم الحسابات السيادية، وأنّ هذا لم يصله أبدًا.

 

خشية من ترتيبات وراء الكواليس

آلان بيفاني، المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية الذي أغلق باب المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لاحتجاجه على عرقلة القطاع المصرفي، كان ردّه أنّ “الحسابات السيادية تعود إلى الدولة، والدولة هي التي فوّضتAlvarez& Marsal . لا تمتلك الشركة صلاحية في هذا الطلب”.

وحكم الهيئة الاستشارية العليا لوزارة العدل بأنّ حجّة السرية المصرفية التي يستخدمها مصرف لبنان ليست مقبولة.

إقرأ أيضاً: افتتاحية “لوموند” الفرنسية: لبنان الدولة، وحش لا يمكن ترويضه

منذ أيام قليلة، أكّد محيطون برياض سلامة أنّ بنك فرنسا سيتولّى تدقيق حسابات مصرف لبنان، بناءً على اقتراح قدّمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصيف الفائت، الذي يميل إلى التقليل من أهمية التدقيق الجنائي. لكن وفقًا لمعلومات “لوموند”، لا يملك بنك فرنسا أدنى نيّة بتنفيذ هذه العملية. إنّه ملتزم فقط بتقديم المساعدة التقنية، بصفته “طرفاً ثالثاً موثوقاً به”.

وراء هذا التقارب، تخشى الأوساط الإصلاحية اللبنانية من تسوية وراء الكواليس تدور بين الجهات المانحة للبنان وبين حاكم مصرف لبنان.

“صفقة” من شأنها دفن التحقيق الجنائي، الذي يعتبر مُسيّسًا للغاية، مقابل المكوّنين الآخرين للتحقيق. يقول مصدر في الحكومة: “لقد غطّى المجتمع الدولي طبقتنا السياسية لمدة ثلاثين عامًا. هل سيكون بإمكانه أن يضمن لهذه الطبقة الإفلات من العقاب مقابل تعهّد بسيط بتغيير ممارساتها؟”.

خلال جلسة استثنائية في البرلمان، عُقدت يوم الجمعة 27 تشرين الثاني، تنافس أعضاء مجلس النواب اللبناني في إطلاق تصريحات داعمة للتدقيق الجنائي. إلا أنّها فقاعة إعلامية، من دون أيّ قيمة ملموسة، وهدفها تقديم انطباع جيّد أمام الرأي العام اللبناني. كان بإمكان المسؤولين المنتخبين التصويت على نصّ يلزم بإجراء التدقيق الجنائي، لكنّهم لم يفعلوا ذلك.

لا أحد يمكنه المساس بمصرف لبنان،. إنّه صندوق باندورا النظام اللبناني.

 

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

إقرأ أيضاً

حين “يَعلَق” موكب ميقاتي بعجقة السير!

تتّسع دائرة الجفاء والتباعد على خطّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام المولوي والمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. آخر الأخبار تؤكّد…

انتخابات روسيا: المسلمون واليهود صوّتوا لبوتين.. لماذا؟

حقّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الروسية التي أُجريت بين 14 و17 آذار الجاري. وإذا كان الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد…

حلفاء “المحور” في لبنان… يخططون لـ”ما بعد طوفان الأقصى”

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت في الأسبوع الفائت إنعقاد لقاء لقوى ومنظمات حزبية من محور الممانعة، منها قيادات في الحزب والجماعة الإسلامية وحركة حماس، وذلك بهدف…

هل يُسلّم البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز؟

من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات في انفجار المرفأ. وكانت لديه مقاربته القانونية-الشخصية للتعقيدات التي كبّلت الملفّ…