نهاية عصر المولات في لبنان: أهلاً بالأسواق الشعبية؟


يبدو أنّ ثقافة “المول” في طريقها إلى الاندثار، مع تصاعد حدّة الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، التي أودت بالقدرة الشرائية لدى عموم أبناء الطبقة الوسطى. وقريباً قد تتحوّل هذه المباني الكبيرة إلى مدن أشباح صغيرة، أو إلى أسواق شعبية، لمحلات تبيع الثياب الرخيصة الثمن، بدلاً من الماركات العالمية. وذلك نتيجة تراجع القدرة الشرائيّة للبنانيين، واستنزاف الجزء الأكبر من مدخولهم في الإنفاق على الأساسيّات والحاجات الماسّة كالطعام والشراب وتكاليف المعيشة، وهو ما قلّص ميزانيّتهم لأبواب الإنفاق الأخرى.

فبحسب جمعيّة تجّار بيروت، اتخذت 40% من المحلات التجاريّة التي تتعاطى بيع الماركات العالميّة قرارات بالإقفال التام، أو بالتصفية تمهيداً للإقفال، فيما تتوقّع الجمعيّة أن تصل هذه النسبة إلى حدود 60% خلال الأشهر القليلة المقبلة. من هذه الماركات التي غادرت السوق بالفعل، أو بدأت بأعمال التصفية، محلات معروفة، منها “أميركان إيغل”، و”أديداس”، و”مذركير”، و”فيكتوريا سيكرت”، وغيرها. فيما تنضمّ أسبوعيّاً شركات جديدة إلى قافلة الماركات التي قرّرت مغادرة البلاد. أما عدد الماركات العالميّة التي غادرت لبنان بالفعل خلال الأزمة الحاليّة، فبلغ، بحسب جمعية تراخيص الامتياز، 42 ماركة تجاريّة معروفة من مختلف القطاعات التجاريّة والسياحيّة. خصوصاً أنّ هذه الماركات مرتبة أسعار قطعها بسعر صرف الدولار، المتدحرج صعوداً منذ أشهر طويلة.

بحسب جمعيّة تجّار بيروت، اتخذت 40% من المحلات التجاريّة التي تتعاطى بيع الماركات العالميّة قرارات بالإقفال التام، أو بالتصفية تمهيداً للإقفال

لطالما عُرِف لبنان كسوق منفتحة على الماركات العالميّة المشهورة، وهو ما ساهم طوال السنوات الماضية بازدهار سوق المولات التي تحتضن هذا النوع من المحالّ والماركات، والتي تزايد عددها باضطراد قبل حدوث الانهيار المالي، كما ازداد عدد مرتاديها. أمّا اليوم، فبات المشهد مختلفاً تماماً، خصوصاً بعد أن أصبحت معظم المحال التي تحمل أسماء الماركات العالميّة داخل المولات إما مقفلة أو تستعدّ للإقفال النهائي، وهو ما بات يهدّد استمراريّة هذه المولات نفسها، كون عمل المولات يعتمد على مردود الإيجارات الذي تدفعه المحال التي تعمل داخلها.

لهذا السبب، اتّخذت مولات عدّة قرارات بهدف حثّ المحال التجاريّة على تأجيل قرارات الإقفال النهائي، كعرض حسومات كبيرة تصل إلى حدود 70% على كلفة الإيجار، أو حتّى الإعفاء التام من الإيجارات لبضعة أشهر في حالة المحلات المتعثّرة، في محاولة لشراء بعض الوقت وتفادي تحوّل المولات نفسها إلى مدينة أشباح نتيجة إقفال المحال فيها. هذا النوع من الخطوات نفع خلال الفترة الماضية بتأجيل الكارثة، لكنّ حجم الأزمة الكبير بدأ يهدّد اليوم استمراريّة وجود المولات نفسها التي قد تبدأ  قريباً بهجرة الأسواق اللبنانيّة، بعد أن بدأت الماركات التجاريّة بهجرتها منذ أشهر.

بحسب الأرقام، تراجع الطلب على قطاع الملبوسات مثلاً بنسبة 60% خلال الأشهر الماضية، فيما تراجع الطلب على الماركات العالميّة المعروفة بنسبة 70% في الوقت نفسه. مع العلم أنّ تراجع القدرة الشرائيّة دفع المزيد من الأسر إلى الانتقال من شراء الماركات العالميّة إلى شراء السلع المستوردة لكن الأقل نوعيّة وسمعة، في محاولة للتكيّف مع ظروف المرحلة. ومع تراجع الطلب، تراجعت قدرة هذه المحالّ على الاستمرار، وتلاحقت قرارات الإقفال.

لطالما عُرِف لبنان كسوق منفتحة على الماركات العالميّة المشهورة، وهو ما ساهم طوال السنوات الماضية بازدهار سوق المولات التي تحتضن هذا النوع من المحالّ والماركات، والتي تزايد عددها باضطراد قبل حدوث الانهيار المالي، كما ازداد عدد مرتاديها

المشكلة الثانية بالنسبة إلى الشركات التي تتعاطى بيع الماركات العالميّة، تكمن في ارتباط الكثير منها بعقود تفرض عليها دفع عمولات للشركات الأجنبيّة لاستعمال أسماء الماركات العالميّة. فأسماء الماركات تعتبر ماركات مسجّلة تملكها الشركات الأجنبيّة، التي تملك حقّ توزيع هذا الامتياز للشركات التي تختارها على مستوى لبنان. وعلى الشركات التي تحصل على هذا الامتياز في لبنان أن تقوم ببيع بضاعة الشركات الأجنبيّة أولاً، وبدفع رسوم بدل استعمال الاسم التجاري أو الماركة العالميّة للشركة الأجنبيّة ثانياً. وبما أنّ هذا النوع من الرسوم يُحدّد بالدولار الأميركي، فمن الطبيعي أن تتضاعف قيمتها بالعملة المحليّة مع انهيار سعر الصرف. وبذلك، ارتفعت خسائر القطاع التجاري طوال الفترة الماضية مع ارتفاع كلفة هذه الرسوم على التجّار.

إقرأ أيضاً: السؤال اليومي: كم بقي من راتبك؟

هكذا تتجه الأمور إلى مزيد من الانحدار على مستوى القطاع التجاري وتجارة التجزئة، إلى الحدّ الذي بات ينذر بإقفال المولات نفسها لعدم وجود المحال التجاريّة الكفيلة بتشغيلها. أما السياحة، التي كانت تمثّل البديل الطبيعي الذي يوفّر الطلب بالنسبة إلى هذه المحالّ حين ينخفض الطلب المحلي، فهي تعاني بدورها من متاعب لا تقلّ قسوة، وخصوصاً في ظلّ انعدام الاستقرار الذي يخيّم على البلاد، وبوجود ما تركه انفجار المرفأ من انطباعات لدى الأجانب تشير إلى أنّ لبنان بات أرض سائبة أمنيّاً. أما المشكلة الأكبر، فستتعلّق خلال الفترة المقبلة بجيش العاطلين عن العمل، الذين يُصرفون يوميّاً من المحالّ التجاريّة التي صارت تقفل تباعاً، وهو سيضاعف من وطأة الأزمة المعيشيّة والاجتماعيّة التي تعاني منها البلاد.

إقرأ أيضاً

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…

عمولة 8 مليار$: إلى متى سيبقى مصرف لبنان صامتاً؟

أثير ضجيج كثير حول تقرير التدقيق الجنائي في حسابات شركة “أوبتيموم” المتعاونة مع مصرف لبنان. لكنّ الأخير لا يزال صامتاً حتى اللحظة. على الرغم من…

كفى ثرثرة.. إنصرفوا إلى معالجة الأزمة

كفى ثرثرة. . . الكلّ يدّعي المعرفة وامتلاك المعلومات التي تسمح له بتصنيف الناس بين فاسد وغير فاسد، ويرمي بالأرقام والأسماء التي  تُربك وتشوش على…