مروان طحطح “بين تشرين وتشرين”: الخريفُ ربيعٌ ثانٍ

مدة القراءة 4 د


لم يحب هيلموت نيوتن الخلفيات البيضاء في الصور. المرأة، كان يقول، لا تعيش أمام ورقة بيضاء. بل هي تعيش في الشوارع، داخل سيارة، أو في غرفة فندق. المصوّر الألماني الشهير كان يقصد أنّ الصور تستمدّ قوتها من المكان والزمان. الأبيض لون العدم. ولهذا فإنّ عدسة الكاميرا حينما ترمش، فإنها تقبض داخلها على اللحظة، في سياقاتها وفي قدرتها على التحوّل مادة للتأويل، ومادة للموقف.

من هنا يأتي معرض “بين تشرين وتشرين…” (أقيم في هنغار “أمم للتوثيق”- الغبيري، ويستمرّ حتّى شباط المقبل) للمصوّر الصحافي مروان طحطح، الذي لم يفارق ساحات الثورة طوال السنة الماضية وكان حاضراً ليلتقط بحساسيته المعهودة لقطات ذكية تؤرخ للحدث وتؤبّد اللحظات في جزء يسير من الثانية هي لحظة الدوس بالإصبع على زرّ التصوير. شيء أشبه بإطلاق النار من بندقية قنّاص، لكنها رصاصة زمنية، تقتل الوقت، وتوقفه في لحظة واحدة مكثّفة. إحدى الصور لسيدة تجلس على مقعد وأمامها يظهر الطريق السريع. ظهرها للكاميرا وتتطلع إلى الأوتوستراد، كما لو كان لوحة فنية تحتاج إلى تأمّل. ولا نعرف إلى أين يأخذ هذا الطريق السريع. ربما إلى مستقبل أفضل. وربما إلى الجحيم كما في أغنية “آي سي/ دي سي” الشهيرة.

لم يحب هيلموت نيوتن الخلفيات البيضاء في الصور. المرأة، كان يقول، لا تعيش أمام ورقة بيضاء. بل هي تعيش في الشوارع، داخل سيارة، أو في غرفة فندق

بدأ التحضير للمعرض بعد انفجار مرفأ بيروت بأسبوعين. وجرى انتقاء الصور مع مونيكا بورغمان وعمل أيمن نحلة على السينوغرافيا والإضاءة. أما فكرة العنوان فخرج فيها لقمان سليم، “بين تشرين وتشرين”، وهو مثل شعبي تكملته: “صيفٌ ثانٍ”. لكن سليم وضع للعنوان العربي ترجمة إنجليزية مفادها: “الخريف هو ربيع ثانٍ”.

المعرض جُهّز ببلوكات اسمنتية شبيهة بتلك الموضوعة في رياض الصلح بين المتظاهرين والمقرات الرسمية. جرى تجهيزها في قوالب داخل الهنغار لتحاول نقل أجواء الساحات إلى المعرض. تتجول بين البلوكات الاسمنتية لتشاهد الصور التي التقط بعضها من خلف بلوكات اسمنتية. المعرض يحاول أن ينقل تكبيل المدينة بالأسلاك الشائكة والإسمنت والحديد بقبضة أمنية. يلتقط لحظات الذروة، واستراحات “المحاربين” من الجانبين. المحاربون ضدّ السلطة والمحاربون دفاعاً عنها من القوى الأمنية والشبّيحة. بعض الصور معروفة، لاقت رواجاً على مواقع التواصل الإجتماعي بعدما نشرها طحطح. بعضها الآخر تصدّر الصفحة الأولى لجريدة “الأخبار” قبل أن يستقيل منها مروان قبل أسابيع ويعمل كمصوّر “حرّ”.

المعرض جُهّز ببلوكات اسمنتية شبيهة بتلك الموضوعة في رياض الصلح بين المتظاهرين والمقرات الرسمية. جرى تجهيزها في قوالب داخل الهنغار لتحاول نقل أجواء الساحات إلى المعرض

بين تشرين وتشرين فصول من الأحداث واللحظات الآسرة التي التقطتها عينُ مروان، والتي تقول الكثير بلغة لا تحتاج إلى تفسير أو ترجمة. يروي بعدسته قصصاً صغيرة ينقلها بالتفاصيل والملامح والضوء والظلال والانعكاسات. يصور المدينة بثورتها كما لو أنّها امرأة تقف أمام عدسة نيوتن. لا خلفية بيضاء. بل في الشوارع. على الأدراج والأرصفة وأمام الأبنية ومن بين الخراب والنار والدخان، ينتزع مروان نظرة من المدينة العارية، التي تواجه بعريها كل أنواع السلطات والمحظورات وتنتفض على السائد والبائد وتنتصر على الأبد والعدم بلونيهما الأبيض.

إقرأ أيضاً: نانسي عجرم تودّع و”تشخبط” عالحيط: سنعود!

هل أصبحت الثورة مجرد ذكرى وصورة؟ أليس هذا المعرض بمثابة تكريم لثورة ماتت، لكن من أحبوها يعلّقون صورها على الجدران؟

يرى مروان أنّ التوثيق الذي يقوم به بعدسته لا يعني أنّ الثورة انتهت. بل هو شخصياً لا يزال يؤمن بضرورة النزول إلى الشارع للمطالبة بالتغيير والتصوير. وهو ليس مصوّراً فحسب. كان ينزل مع كاميرته كما لو كانا شخصين إلى التظاهرات.

عينه ليست محايدة. إنها عينُ الناس.

مواضيع ذات صلة

من يستدرج لبنان للعداء مع سوريا؟

تعاملت دول جوار سوريا مع تحوّلاتها بشكل متفاوت. لكنّها أجادت التموضع بدقّة ووضوح وثبات. بقي لبنان منذ ذلك الحدث قبل عام، منقسماً، متصدّعاً على المستوى…

الأزمة السّوريّة داخل السّجون اللّبنانيّة تتصاعد

بعد أسابيع على زيارة نائب رئيس الحكومة طارق متري لدمشق، ولقاء رئيس الحكومة نوّاف سلام بالرئيس السوريّ أحمد الشرع على هامش منتدى الدوحة، زار الأربعاء…

سيمون كرم يخلُف نعيم قاسم

لا يختلف اثنان على أنّ تعيين سيمون كرم، الدبلوماسيّ/المدنيّ، على رأس لجنة “الميكانيزم” المكلَّفة بالتفاوض مع إسرائيل، أوقف تدحرج “الحرب الشاملة” التي كانت إسرائيل تهدّد…

تكامل خليجيّ مُتصاعد… ورسائل وازنة لثلاثة جيران

لم تكن القمّة الخليجيّة الأخيرة عاديّة أو استثنائيّة. يُمكن القول إنّها بينهما، توقيتاً ومضموناً. تبني دول مجلس التعاون الستّ (السعوديّة والإمارات وقطر والكويت وعُمان والبحرين)…