حق الردّ للمسلمين والثورة الفرنسية المُهدّدة


حتى قبل حادثة ذبح المدرّس الفرنسي صمويل باتي كانت نشرات أخبار التلفزيونات الفرنسية توحي أنّ الشارع يغلي، ولا بدّ أن يؤدّي إلى حدث كبير ما.

إقرأ أيضاً: أزمة الإسلام وأزمة فرنسا

فعلى مدى أيام كانت تحصل حوادث غريبة في عدد من المدن الفرنسية ضجّت بها وسائل الإعلام والمجتمع الفرنسي. شبان عرب ومسلمون يتعرّضون بالكلام وأحياناً بالضرب لنساء وفتيات لأنهن يرتدين تنانير أو فساتين أو شورتات قصيرة … ويدعونهنّ إلى الاحتشام والتستر، مع الإشارة إلى ما كشفته الصحافة الفرنسية لاحقاً عن أنّ المعتدين هم من جماعة مسيحية متشددة. لكن هذه المعلومات الصحافية لم تغيّر شيئاً من المعلومة الأولى.

هل كانت كلمة سرّ تحرّك تلك المجموعات في العديد من المدن البعيدة بعضها عن بعض، وفرنسا شاسعة، وفي هذه الحال ما الغاية؟ يذهب التفكير تلقائياً إلى تركيا الحاضرة في دعم جمعيات دينية متشدّدة في فرنسا. هل تكون هذه نقلة من الرجل الطامح إلى استعادة الإمبراطورية، الرئيس رجب طيب أردوغان لإزعاج فرنسا التي تنافسه في شرق البحر المتوسط، وتزعجه من خلال الاتحاد الأوروبي؟

في قضية رسوم المجلة المسيئة، وجد المسلمون أنفسهم محرومين عملياً من حقّ الردّ بما يهدّئ غضبهم، فلا هم يستطيعون الردّ برسوم كاريكاتورية لأن الإسلام يعتبر يسوع (عيسى) ويكرّم والدته مريم العذراء، على غرار اعترافه بالنبي موسى

والحاصل أنّ الفرنسيين من دون جميل أردوغان يعيشون في غربة عن مواطنيهم المسلمين الذين يبلغون ستة ملايين نسمة، ولا يمكنهم استيعاب قيم الجمهورية العلمانية التي تقدّس الحرية كما نحن نقدّس رموزنا الدينية، بدليل أنّ مجلة “تشارلي إيبدو” اليسارية التي تعرّضت للهجوم المسلّح عام 2015 نشرت رسوماً عن السيد المسيح والسيدة العذراء والنبي موسى يندى لها الجبين. أيّ لبناني وعربي مسلم أو مسيحي لا يعرف فرنسا يتعجّب عندما يرى الرسوم كيف يقبلها الفرنسيون المفترض أنهم مسيحيون بغالبيتهم، واليهود أيضاً. لكنها فرنسا حيث القانون يحمي الحرية، ولا سيما في التفكير والتعبير وطريقة الحياة، وهي إحدى ركائز الجمهورية الثلاث، مع الأخوّة والمساواة. والفرنسيون متعصّبون لهذه الحرية، ويطلبون ممن يحملون جنسيتهم أن يكونوا مثلهم. إذا كانت مجلة لا تعجبك، فلا تشترها ولا تنظر إلى الصور.

ويصعب أن يجاريهم الجزائريون والمغاربة والتوانسة وغيرهم . عندهم نظرة أخرى يضاف اليها اعتبارهم أنّ فرنسا مسؤولة عن تخلّف بلدانهم وفقرها لأنها استعمرتها في ما مضى،  كما أنها مسؤولة عن معاناتهم، الناتجة غالب الأحيان من صعوبة اندماجهم في البيئة الفرنسية التي ازدادت حساسيتها ومبلغ الاستياء لديها بسبب كورونا والأزمة الاقتصادية. 

بالطبع يجسّد الفقر وضآلة الثقافة حاجزاً منيعاً بين كثيرين من الفرنسيين المسلمين وذوي الأصول المغاربية في شكل خاص، ما يحول دون اندماجهم في البلاد التي يحملون جنسيتها.

في قضية رسوم المجلة المسيئة، وجد المسلمون أنفسهم محرومين عملياً من حقّ الردّ بما يهدّئ غضبهم، فلا هم يستطيعون الردّ برسوم كاريكاتورية لأن الإسلام يعتبر يسوع (عيسى) ويكرّم والدته مريم العذراء، على غرار اعترافه بالنبي موسى. وكلّ دين مهما حكي عن حوار أديان لا يعترف بمن يأتي بعده، ولذلك عند اليهود لم يأتِ المسيح بعد.

المسألة برمّتها مسألة ثقافات. وأنّ المسيحية بريئة في هذه المعمعة، وهي في هذه المعمعة أعجز من أن تدافع عن نفسها وعن مقدّساتها ورموزها أمام مجلة تنشر رسوماً كاريكاتورية تافهة وبلا أخلاق

وثمّة مشكلة أخرى تعترض الاندماج مع الثقافة الغربية عموماً، ولا سيما العلمانية والملحدة، تتمثّل باتساع لهامش الحرية الشخصية فيها ما يجعل الدين شأناً شخصياً بحتاً لا يحقّ لأحد أن يتدخّل أو يسأل أحداً عنه. في حين أنه شأن عام في الشرق وعند الشعوب الإسلامية. لذلك لا يستوعب المهاجر أو المتجنّس فرنسياً، والذي بقي متعلّقاً بجذوره أنّ حرية المعتقد تشمل احترام المقدّسات وإهانتها أيضاً، وإلى أيّ دين كانت عائدة تلك المقدّسات. كما يصعب عليه تفهّم أنّ الدفاع عن هذا الحقّ لا يعني تأييداً للمضمون، وهو في الحال الراهنة رسوم المجلة، التافهة، المسيئة.

من العجز عن الردّ على الإساءة بإساءة مشابهة، اهتدى بعضهم إلى وجهة شتم رئيس فرنسا ماكرون، وسرعان ما اكتشف أنّ كثيرين من الفرنسيين يشتمونه أيضاً وبتعابير أقسى، ولا يهمّه الأمر، ولا يغيّر ذلك شيئاً.

بهذا المنحى، كان العمل العنفي في حقّ أفراد، وبطريقة شنيعة في مكان مقدّس عند المسيحيين لتثير غضباً واستياءً عارمين، ويتوجّع الفرنسيون والغرب كما توجّع مَن ساءتهم السخرية من نبيهم المحبوب باسم حرية التعبير. فكان الردّ تعبيراً عن العجز عن استخدام حقّ الردّ على الإساءة الكاريكاتورية بعدالة ومساواة.

ومن اليوم، بدأت ترتسم علامات النتيجة الكارثية، مع ارتفاع أصوات تنادي من لا تعجبه أوروبا وفرنسا إلى الرحيل عنها، وهذه مصيبة على المهاجرين والمتجنّسين بمجرّد الحديث عنها، فكيف بمحاولة تطبيقها إذا وصلت إلى الحكم أحزاب يمين متطرّف، بفعل اشتداد أزمة عدم الاندماج في القارة؟

لا تزال الانتخابات الرئاسية بعيدة في فرنسا وأمامنا سنتان، ولكن لا يمكن استبعاد فرضيات واحتمالات من هذا النوع إذا لم تنحسر موجة الاشتباك فيها.

هل لمراجع الشرق دور في التهدئة؟ يحضر هنا موقف الأزهر عند صدور رواية “آيات شيطانية” للكاتب سلمان رشدي، كان الموقف من المرجعية الإسلامية السُنّية العالية أنّ الرواية تندرج ضمن حرية التعبير، وأقصى ما يستطيع الأزهر قوله إنه لا يوافق عليها، ولا يعتبرها أمراً حسناً، والتعامل معها يكون بالردّ على مضمونها وتبيان الحقيقة. بينما ذهب الإمام الخميني إلى إصدار فتوى بقتل الروائي البريطاني.

والحقّ أنّ المسألة برمّتها مسألة ثقافات. وأنّ المسيحية بريئة في هذه المعمعة، وهي في هذه المعمعة أعجز من أن تدافع عن نفسها وعن مقدّساتها ورموزها أمام مجلة تنشر رسوماً كاريكاتورية تافهة وبلا أخلاق، لكن ما العمل ؟ إنها الثورة الفرنسية التي لم تصل إلى الشرق وقد صار الفرنسيون في حال خوف على مبادئها . ولو أقدمت وسيلة إعلامية على نشر إساءات للسيد المسيح والسيدة العذراء كما فعلت “شارلي” لنالت ما يسرّ خاطرها في بلاد الأرز. هل نسينا ما رافق منع حفلة “مشروع ليلى” في جبيل صيفية السنة الماضية؟

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…