بولتون يتذكر (15): الكورونا سلاح دمار شامل من الصين


جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها مارقة. رئيس مؤسسة غايتستون، وهي مجموعة تفكير، وباحث سابق في مؤسسة أنتربرايز المرتبطة بالمحافظين الجدد. عمل كمحامٍ، ودبلوماسي، ومستشار سابق للأمن القومي. ما بين عامي 2001 و2005 عمل في إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن في ملف نزع السلاح. واستلم منصب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بين عامي 2005 و2006. وفي إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب عمل مستشاراً للأمن القومي بين عامي 2018 و2019، ثم استقال لخلافات في الرأي مع الرئيس. وفي أواخر حزيران العام الحالي، صدر له كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث مذكرات البيت الأبيض”The Room Where It Happened: A White House Memoir”، والذي تضمّن انتقادات لاذعة لسياسات ترامب، وكيفية إدارته قوة عظمى في مواجهة أزمات حادة.

“أساس” ينفرد بنشر مقتطفات من الكتاب على حلقات، بالاتفاق مع دار نشر “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، التي حصلت على حقوق الترجمة والنشر بالعربية.

إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (14): لا يملك ترامب استراتيجية لمواجهة الصين

في الأوّل من كانون الأول/ ديسمبر 2018، وفي الليلة ذاتها للعشاء المطوّل بين [الرئيس الصيني] شي وترامب في بوينس آيريس بالأرجنتين (وكما ناقشا لاحقاً في أوساكا)، ألقت السلطات الكنديّة في فانكوفر Vancouver القبض على المديرة المالية الرئيسية لشركة الاتصالات الصينيّة الضخمة “هواوي” مينغ وانز هو. (كنا قد سمعنا يوم الجمعة أنّ التوقيف من الممكن أن يحصل السبت بعد وصول ابنة مؤسس “هواوي” مينغ إلى كندا). لقد اعتبرتُ الأمر عاديّاً لا سيّما أنه جاء نتيجة اتهامنا للشركة، من ضمن اتهامات أخرى، بالاحتيال المالي، وإخفاء مخالفاتها لعقوباتنا ضدّ إيران. لقد كانت المسائل مزدحمة في بوينس آيريس، وأنا كنتُ تعلّمتُ جيّداً بعدما شاهدتُ ترامب مع أردوغان أن أمتلك كلّ المعطيات بين يدي قبل أن أفاتح الرئيس بأي موضوع.

 

“إيفانكا ترامب الصينية”

مع انتشار دلالات التوقيف في الإعلام، انزعج أصدقاء الصين في الولايات المتحدة. أثار ترامب مسألة توقيف مينغ في حفل عشاء الميلاد في البيت الأبيض في السابع من كانون الأول/ ديسمبر، متبجّحاً بحجم الضغط الذي وقع على الصين جرّاء ذلك. وقال لي من الجانب الآخر للمائدة إننا أوقفنا للتو “إيفانكا ترامب الصينيّة”. كنتُ على وشك القول: “لم أكن أعلم مطلقاً أنّ إيفانكا [ابنة ترامب] جاسوسة ومحتالة”، ولكن تدخلّت آلية ضبط لساني في الوقت المناسب. أيّ مستثمر في وول ستريت أوحى لترامب بسلوك هذا المسار؟ أم أنه كان كوشنير [صهر ترامب] الذي انخرط مع كيسنجر في غزل متبادل حيال الصين منذ الانتقال؟ تذّمر ترامب من أنّ “هواوي” هي أكبر شركة اتصالات صينيّة، فيما قلتُ إنها ليست شركة، بل هي ذراع لأجهزة الاستخبارات الصينيّة.

حذّرني وزير التجارة ويلبر روس من أنّ ترامب لا يريد فرض عقوبات على الصين بسبب المحادثات التجارية الجارية. كانت قضيّة “الإيغور” تشقّ طريقها في آليات عمل مجلس الأمن القومي، إلا أنّ عناصر القرار لم تكن مكتملة بعد. لقد ازداد الأمر سوءاً

لقد جعل ترامب الأمور تزداد سوءاً عندما أوحى في مناسباتٍ مختلفة بأنه بالإمكان استخدام قضيّة “هواوي” كأداة مساومة أميركيّة في المباحثات التجاريّة متجاهلاً الملف القضائي بحقها.

 

ترامب غير مهتم بهونغ كونغ ولا بالأقليات

كنتُ أتمنى لو أنّ ترامب نظر إلى أحداث هونغ كونغ على أنها توفّر فرصة له للتأثير على الصين، ولو لم يكن بداعي دعم مطالب المتظاهرين بالحفاظ على وضع هونغ كونغ الفريد. كان عليّ أن أكون أكثر إدراكاً. تزامنت زيارة الدولة إلى بريطانيا مع الذكرى الثلاثين لمجزرة ساحة “تيان آن مين” [ساحة تقع في وسط بكين عاصمة الصين، مساحة الميدان تصل إلى 440 ألف متر مربع، مما يجعلها أكبر ميدان من حيث المساحة في العالم].  ولكن ترامب رفض إصدار بيان عن البيت الأبيض في هذه المناسبة. أبلغ وزير الحزانة منوشين ترامب أنه قلق من تأثير مسودة البيان على المفاوضات التجاريّة، وأنه يرغب في تبريد الأجواء. قال ترامب بشكل غير دقيق: “هذا الأمر حصل منذ 15 سنة، من الذي يكترث له الآن؟ أنا أحاول عقد صفقة. لا أريد إصدار أي شيء”. قُضي الأمر.

كانت الصين منشغلة أيضاً بقمع الأقليّات الإثنيّة كما كانت تفعل منذ عقود في التيبت على سبيل المثال. كذلك، واصلت بكين بشكل مضطرد قمع الإيغور، وهم صينيون من غير عرق الهان، وغالبيتهم مسلمون. أثناء عشاء ليلة الميلاد لسنة 2018 في البيت الأبيض، سألني ترامب: لماذا علينا أن نفرض عقوباتٍ على الصين بسبب معاملتها “الإيغور” الذين يقطنون في مقاطعة تشينجيانغ الواقعة في شمال غرب البلاد. حذّرني وزير التجارة ويلبر روس من أنّ ترامب لا يريد فرض عقوبات على الصين بسبب المحادثات التجارية الجارية. كانت قضيّة “الإيغور” تشقّ طريقها في آليات عمل مجلس الأمن القومي، إلا أنّ عناصر القرار لم تكن مكتملة بعد. لقد ازداد الأمر سوءاً. في حفل العشاء الافتتاحي لمجموعة العشرين في أوساكا، الذي لم يحضره سوى المترجمين، شرح تشي لترامب أسباب تشييده معسكرات الاعتقال في تشينجيانغ. وفق ما قاله لنا مترجمنا، ترامب أبلغ تشي أنّ عليه مواصلة البناء لأن ذلك هو الشيء الصحيح للقيام به. ونقل لي مات بوتينغر Matt Pottinger [نائب مستشار الأمن القومي لشؤون آسيا] أنّ ترامب قال أمراً مماثلاً خلال رحلته إلى الصين سنة 2017، مما يعني أننا سنغضّ النظر عن فرض عقوبات على الصين بسبب ملف “الإيغور” على الأقل ما دامت المفاوضات التجاريّة جارية.

 

عاصفة كورونا ومسؤولية الصين

العاصفة التالية القادمة من الصين كانت هذه المرّة على شكل جائحة “كورونا” التي وصلت في مطلع العام 2020. على الرغم من أنّ علماء الأوبئة (بالإضافة إلى خبراء الأسلحة البيولوجيّة) سوف يدرسون هذه الكارثة لوقتٍ طويل في المستقبل، فإن بصمة حكومة الصين بأسلوبها التسلّطي وأنظمتها للسيطرة الاجتماعيّة موجودة في الأمر برمّته. ليس هناك أدنى شك بأن الصين أخّرت، وحجبت، وفبركت، وشوّهت المعلومات حول أصل وتوقيت وانتشار ومدى هذا الوباء؛ وأنّها قمعت أصوات اعتراض الأطباء وسواهم؛ وأنّها أعاقت الجهود الخارجيّة لمنظمة الصحة العالميّة والجهات الأخرى للحصول على معلوماتٍ دقيقة؛ وأنّها انخرطت في حملات تضليل نشطة في محاولةٍ للمجادلة بأن فيروس “سارس” وفيروس “كورونا” لم يكن منشؤهما في الصين. المفارقة أنّ نتائج هذه التعمية عن الواقع انعكست على أقرب حلفائها. على سبيل المثال، بدت إيران كأنها أكثر الدول تضرّراً حيث كشفت صور الأقمار الاصطناعيّة حفر القبور تحضيراً لدفن الضحايا المتوقّع وفاتهم جرّاء “كورونا”.

كانت الصين حتماً متورّطة، وهذا سبب إضافي لنشر المعلومات بشكل موسّع وليس حجبها. هذا ما تردّد ترامب في القيام به طوال الأزمة خوفاً من التأثير المعاكس على الصفقة التجاريّة الصعبة المنال مع الصين أو الإساءة إلى تشي جينبينغ المرهف الإحساس

لم يكن من مفرّ من أن يتحوّل أداء ترامب في هذه القضيّة الصحيّة الطارئة على الصعيد الدولي إلى حملة دعائيّة، كون العام 2020 هو عام انتخابات رئاسيّة. ولقد حصل هذا التحوّل بشكل شبه فوري. كانت ثمّة أمور عديدة قابلة للانتقاد منها: إصرار الادارة دون كلل على أنه تمّ “احتواء” الجائحة، وأن تأثيرها الاقتصادي سيكون محدوداً أو حتى معدوماً. في 25 شباط/ فبراير، أعلن رئيس المجلس الاقتصادي الوطني لاري كودلو: “لقد احتوينا ذلك. لن أقول إنّ الاحتواء محكم تماماً، ولكنه يقترب من أن يكون محكماً”. كانت ردة فعل الأسواق لهذا النوع من التأكيدات في غاية السلبيّة، ولعله هو ما أدّى إلى إيقاظ البيت الأبيض حيال خطورة المشكلة. كان واضحاً أنّه، بالإضافة إلى المفاعيل الإنسانيّة، ستترك التداعيات الاقتصاديّة تردّداتها في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر وما سيليها. كانت ردة فعل ترامب القائمة على التهرّب من أيّ أمر، حتى ولو كان أزمة صحة عامة، تقلّص من مصداقيته ومصداقيّة الدولة، من خلال تصريحاته التي بدت كأنها ترمي للحدّ من الخسائر السياسيّة بدل تقديم النصائح المسؤولة في قضايا الصحة العامة. أحد الأمثلة الفاضحة، كان تقريراً صحافيّاً كشف أنّ الإدارة حاولت تصنيف بعض المعلومات الصحيّة كمعلومات سريّة، وتعتبر فيها الولايات المتحدة أن توّرط الصين هو أمر زائف. كانت الصين حتماً متورّطة، وهذا سبب إضافي لنشر المعلومات بشكل موسّع وليس حجبها. هذا ما تردّد ترامب في القيام به طوال الأزمة خوفاً من التأثير المعاكس على الصفقة التجاريّة الصعبة المنال مع الصين أو الإساءة إلى تشي جينبينغ المرهف الإحساس.

في الأساس، وبعد احتساب كلّ الخسائر البشريّة والاقتصاديّة لفيروس “كورونا”، هناك استنتاجان مخيفان: الأول، إنه علينا القيام بكل ما أمكن للتأكد من أنّ الصين وحملاتها الحاليّة حول أصل الفيروس لن تنجح في إثبات أنّ تقنيّة الكذبة الكبرى لا تزال قابلة للحياة في القرن الحادي والعشرين. علينا قول الحقيقة عن سلوك الصين، وهو ما امتنع ترامب عن القيام به بشيء من الازدراء، أو أننا سنتحمّل النتائج والمخاطر في المستقبل. 

إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (13): ترامب وفنزويلا.. وخاتم زوجة غوايدو

الثاني، بعد مرور عقودٍ على الحروب البيولوجيّة (والكيميائية) التي قُلّل من أهميّتها على أنها “السلاح النووي للفقراء” – مثلما شاهدت دول كإيران وكوريا الشماليّة وغيرهما يحصل حول العالم – علينا التعامل مع هذين النوعين من الأسلحة من أسلحة الدمار الشامل بالقدر ذاته من اليقظة حيال الأسلحة النوويّة. وفي الواقع، هذا تماماً ما كنت أنوي القيام به من خلال قراري دمج مديريّة الأمن البيولوجي بالمديريّة المولجة متابعة أسلحة الدمار الشامل. لا تهدف إعادة التنظيم للانتقاص من الأمن البيولوجي، إنما ترمي لإبراز المخاطر البيولوجيّة المتزايدة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة.

 

*نشر في الأصل بلغته الإنكليزية بعنوان: THE ROOM WHERE IT HAPPENED.
Copyright (c) 2020 by John Bolton

حقوق النشر بالعربية (c) شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش. م. ل.

جميع الحقوق محفوظة (c)

إقرأ أيضاً

بولتون (21): تحرّرت من المنصب بعدما اتهمني ترامب بالتسريبات!

جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها…

بولتون يتذكر (20): ترامب تلاعب بأوكرانيا لأغراض انتخابية

جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها…

بولتون يتذكر (19): ترامب يريد “سفّاحي” طالبان في البيت الأبيض

جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها…

بولتون يتذكر (18).. ترامب عن ماكرون: يخرّب كلّ شيء يلمسه!

جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها…