الرئيس ماكرون: قرّر تعليمنا العربية والإسلام


نشر بيير مانن P. Manent، أستاذ العلوم السياسية البارز عام 2006، كتاباً صار مشهوراً عنوانه  “A World Beyond Politics, A Defense for the Nation State” وكما هو واضحٌ من العنوان فهو يدافع عن النزعات الاندماجية في الدولة/ الأمة. والجمهورية الفرنسية هي دولة الأمة الفرنسية، ومن حقها أن تخشى على وحدتها الداخلية. بيد أنّ نزوعات الوحدة الإطلاقية هي عنصر أساسي في صورة الدولة الحديثة عن نفسها، وسواء أكانت دولة أمةٍ أم لم تكن تعتبر نفسها كذلك. فمفهوم السيادة في الدولة وللدولة لا يتصل بالعلاقة بالخارج فقط، بل وبالداخل أيضاً. وهذا هو مقتضى كلام توماس هوبز عن إطلاقية السلطة بالداخل لمنع العنف.

لكن لماذا نبقى في التنظير؟

ففي العام 1915، وفي خطاب “حالة الاتحاد”، طلب الرئيس وودرو ويلسون من الكونغرس تمرير قانون ضدّ التجسّس والخيانة، ذاهباً إلى أنّ الخطر على الولايات المتحدة ليس آتياً من الأُمم والدول الأُخرى، “بل إنّ أخطر التهديدات لسلامنا وأمننا الوطني ظهرت داخل حدودنا”. ويتابع أنّ تلك الأخطار آتية من المتجنّسين حديثاً (من اليهود والإيطاليين – وهو لا يسمّيهم بالطبع) الذين لم ينسوا انتماءاتهم السابقة، وظهر بينهم الاشتراكيون والفوضويون. ويبلغ من خطر هؤلاء (وإن كانوا قلةً قليلة) أنّ مكافحتهم صارت أمراً أخلاقياً “لإنقاذ شرف الأمة واحترامها لذاتها”، باعتبار أنّ هؤلاء الناس لا يحترمون “سلامة الولايات المتحدة وكرامتها”. وبالفعل، فإنّ قانون التجسّس صدر عام 1917، وتصاعد تأثيره بعد أن كانت الدولة الأميركية قد دخلت الحرب الأُولى عام 1916، وأثّر كثيراً في النظرة إلى المواطنين الجدد خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها في إشكاليات القنبلة الذرية، وفي” البحث عن العفاريت” المتخفّين في حملات السناتور ماكارثي مع بدايات الحرب الباردة ولعدة سنوات. وبحسب حنّة أرندت، فإنّ كلّ الأيديولوجيات السياسية، ومنها القومية، يُستبدل لديها مفهوم الخصومة أو العداوة (السياسية) ليحلَّ محلَّه مفهوم المؤامرة. لأنّ الأيديولوجيا القوية تصطنع ذهنيةً لا تُعاش فيها الحقيقة كما هي، بل يُفترض تلقائياً أنّ الخصومة تدلُّ على شيء آخر أكثر خطورةً وتجذّراً!

إقرأ أيضاً: لبنان دولة تحت الاحتلال (2/2): الخراب الآتي..

إنّ التنكّر لأعراف الدولة العلمانية وقوانينها أو توهُّمُ ذلك، يصبح شبيهاً بالكفر بالمعنى الديني الذي عرفته أوروبا المسيحية قبل القرن السابع عشر. فقوانين الجمهورية تشبه “قانون الإيمان” في ضرورة الاتّباع، وإلاّ تهدّدت وحدة المجتمع والأمة قبل الدولة. ولذلك، فإنّ مآخذ شيخ الأزهر ومفتي مصر وجهات إسلامية أُخرى على كلام الرئيس الفرنسي كانت مخفَّفة إذ انحصرت بالاتهام بإثارة الكراهية ضد المسلمين، وبإدانة دينٍ معيّنٍ يبلغ معتنقوه ما يقارب المليارين! ومنطق هذه الاتهامات هو المنطق المفترض للعلمانية وللدولة الحديثة معاً. فالعلمانية الفرنسية تفصل الدين عن الدولة فصلاً حاسماً، لكن المفروض أنها تضمن الحريات الدينية. والدولة الديمقراطية الحديثة تقول بالمواطنة والشراكة الوطنية القائمة على التنوّع والتعدد والاعتراف بالآخَر، والمسؤولية الفردية وليس الجماعية!

منطق الرئيس ماكرون (بل ومشكلة الحكومة الصينية أيضاً!) مع الإسلام أنّ أتباعه مصرُّون على الاختلاف في المظهر والمخبر، ومن الاختلاف يسيرون إلى الانعزال والانفصال عن المجتمع وأعرافه

يشخّص الرئيس ماكرون وضْع الإسلام كلّه بأنه “مأزومٌ”. وهو بذلك يرفع عن كاهل الدولة الفرنسية الاتهام الممكن أنّ قوانينها وتصرّفاتها ذات الطابع الأمني كانت وراء “الأزمة” في أوساط المسلمين الفرنسيين. ولأنّ المسلمين الفرنسيين وبسبب تأزّمهم الديني هذا يصطنعون ثقافةً مضادةً وانفصالية، فإنه يدخل بقوةٍ على هذا الاستعصاء بهدف صنع “إسلامٍ مستنير”. ومَثَل ذلك مَثَلُ وباء كورونا، الذي يبحث له العالم كلُّه عن لقاح أو دواء. فـ”الإسلام المستنير” الذي لا يذكر الرئيس ومواصفاته الدقيقة، هو الدواء من الداء الذي أصاب المسلمين الفرنسيين، مثل غيرهم، خارج حدود الدولة العلمانية الفرنسية!

منطق الرئيس ماكرون (بل ومشكلة الحكومة الصينية أيضاً!) مع الإسلام أنّ أتباعه مصرُّون على الاختلاف في المظهر والمخبر، ومن الاختلاف يسيرون إلى الانعزال والانفصال عن المجتمع وأعرافه. والانفصال يظهر فيه التشدُّد، وهناك مسافةٌ قصيرةٌ بين التشدّد والعنف أو بين الانعزال والانفصال، فالعنف! وهذه “التجربة” التي عايشها وعاينها وزير داخلية الرئيس ماكرون في فرنسا، تشهدها فرنسا في عددٍ من دول الساحل بإفريقيا، ويعانيها آخرون مع بوكو حرام في نيجيريا وجوارها، منذ أكثر من عقدين.

والواقع أنّ أحداً من المسؤولين العرب والمسلمين والمثقفين لا يُقرُّ العنف ولا يدعمه، بل إنهم أيضاً لا يقرّون التشدّد أو الانعزال. وباستثناء الألمان، فإنّ دولاً ومسؤولين أوروبيين يضعون المسؤولية في خَلْق المجتمعات الخاصة أو الغيتوات، على عاتق جماعات وجمعيات الصحويين والإسلام السياسي، والذين يسيطرون على لجان المساجد وعلى الجمعيات التطوّعية العاملة في أوساط الجاليات الإسلامية. ويضيف الفرنسيون (والألمان) لذلك الأئمة الذين تستقدمهم الجاليات الإسلامية للخطابة والتعليم. ويقول المسؤولون إنّ معظم هؤلاء لا يعرفون الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية. بل إنّ الرئيس ماكرون يريد تعليم هؤلاء العربية بطرائق أفضل وأرقى! وكلّ هذه الأمور مشكلات يمكن التفكير فيها، وقد اقترح لها الألمان حلولاً ومخارج منذ أكثر من عقدين، أفادت كثيراً في خفض العنف، لكنها ما أفادت في زيادة نسبة الاندماج. فإذا كانت المشاركة في الانتخابات بين أدلة وأمائر الاندماج، فإنّ نسبة المشاركة في فرنسا ظلّت أعلى منها في ألمانيا!

منطق الدولة – الأمة هو منطقٌ اندماجيٌّ يرفض الاختلاف مهما كانت درجته، ومهما كانت ديمقراطية تلك الدولة رحبةً ومتطّورة (ألم نَرَ كيف صوَّت السويسريون ضد بناء المآذن؟!)

وما أُريد الوصول إليه أنّ المسلمين ليسوا وحدهم ” الأغيار” أو المأزومين، بل إنّ المجتمعات الأوروبية تغيرت كثيراً وصارت قدراتها على تقبّل الاختلاف والمهاجرين أقلّ بكثيرٍ منها قبل ثلاثة عقود. وصحيح أنّ العنف، ولو من جانب قلةٍ من الأفراد، أثر كثيراً في التوجّهات ضدّ المسلمين، لكنّ الشعبويات الجارفة ذات الخلفية الثقافية أو الدينية، لا علاقة وثيقةً لظهورها، بظاهرة الكراهية ضدّ الغرباء، وعلى رأسهم المسلمون.

وقد ذكر Hebbard في كتابه (2010) عن السياسات الدينية والدول العلمانية (مصر والهند والولايات المتحدة) أنّ إدارات تلك الدول، ومنذ سبعينات القرن الماضي، صارت تُنافقُ الجماعات الدينية للحصول على أصواتها في الانتخابات، وفي المشاهد العامة. ثم إنّ تلك الجماعات التي تحالفت مع مختلف أشكال اليمين، صارت قادرةً على افتراس تلك الأحزاب السياسية والحلول محلَّها في السلطة! وهكذا فإنّ الرئيس ماكرون والساسة في الدول بوسط أوروبا وشرقها والدول الاسكندنافية، إنما يتنافسون الآن مع اليمين الصاعد، على أصوات الناخبين. ولا أحد يدري – كما قال أوليفييه روا – كم سيؤثر ذلك على شعبويات ذاك اليمين الذي استخدم من زمان “بعبع” الإسلام، مثلما استخدم من قبل “بعبع” الشيوعية. وبذلك، فإنّ “يمين الوسط” جاء متأخراً جداً!

منطق الدولة – الأمة هو منطقٌ اندماجيٌّ يرفض الاختلاف مهما كانت درجته، ومهما كانت ديمقراطية تلك الدولة رحبةً ومتطّورة (ألم نَرَ كيف صوَّت السويسريون ضد بناء المآذن؟!). وهو يتلاقى الآن تلاقي النقائض مع منطقٍ يرفض الاندماج بأي شكل ويعتبركلّ مختلفٍ، ديناً أو لوناً أو شكلاً أو لباساً، غريباً يستحقّ النفي أو الطرد لحفظ طُهر الأمة وصفائها!

وفي خضمّ الأفق أو انسداده، يبقى علينا عرباً ومسلمين أن نتخلَّص من مصيبة العنف وتداعياته، استسهالاً أو ارتكاباً، أو نظلّ محتاجين إلى أن يعلّمنا ماكرون اللغة العربية، ويعلمنا الألمان الإسلام المعتدل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…