أذربيجان وأرمينيا (1): استنطاق الخرائط


ليس لتركيا من حدود ترابية مباشرة مع الكتلة الأساسية، أي المتصلة ببعضها البعض، من أراضي جمهورية أذربيجان. تقتصر الحدود الترابية الرسمية بين البلدين على بضعة كيلومترات على ضفتي نهر آراس، بين تركيا وبين الجيب الذي تشكله جمهورية نخشوان الذاتية، التابعة لأذربيجان، إنما المفصولة عنها. من الجهات الأخرى، تفصل أرمينيا بين الدولتين التركية والأذرية. هذه المباعدة الأرمنية بين الدولتين التركوفونيتين، القوقازية والأناضولية، هي التي تسهّل أمور “العشق” بينهما. كان من الممكن للغاية لو راجعنا خرائط القرنين الماضيين أن تكون لأذربيجان المستقلة حدوداً أوسع مع تركيا. لو حصل ذلك لكانت العلاقات بين البلدين حتماً أقل “عشقية” مما هي عليه الحال اليوم. مدينة حدودية تركية كأغدير، هي بأكثرية إثنية أذرية، كانت ستشكل” وجعة رأس” بين البلدين، وحتى لو توغلنا أكثر داخل التراب التركي، لجهة قارص، المدينة التي ذاع صيتها في العقود الأخيرة بعد اشتهارها بفعل اختيار الروائي التركي اورهان باموق لها كمسرح لأحداث عمله “ثلج”، فالأذرية هم اليوم ثاني أكبر جماعة اثنية في قارص، والحركة القومية الأذرية عندما ترسم الخارطة المشتهاة لبلادها فانها تتوسع بها لتشمل قارص وأنحاءها. عدم وجود حدود ترابية بين تركيا والكتلة الأساسية من جمهورية أذربيجان سمح لهما بتجنب هذا الإشكال الذي يثيره الوجود الاثني الأذري أقصى شمال شرق الأناضول. هذا بالنسبة للشيعة من القوم الأذري، الذين يسمونهم في تركيا “العجم” أو “الشروان”، لكن أيضاً هناك أبناء القومية الأكثر إشكالياً في جذورها، انما المحتسبة على الأذر ونطاقهم بشكل أو بآخر، والتي تعرف باسم التراكمة، أو القره‌ پاپاق.

إقرأ أيضاً: الحروب تنتقل من اليونان إلى أرمينيا وأذربيجان: إنّه الغاز

تفصل أرمينيا إذاً بين تركيا وبين الدولة التركوفونية الوحيدة شبه المجاورة لتركيا، أي أذربيجان، لأن الدول التركوفونية  الأخرى (دول الترك، أو الناطقة باحدى لغات الترك، في مقابل تمييز ترك تركيا بأنهم أتراك)، أبعد من ذلك بكثير جغرافياً (أوزبكستان، قرقيزيا، تركمنستان، كازاخستان).

أما جمهورية أرمينيا نفسها، التي تسمى بالأرمنية “هياستان”، والواقعة هي الأخرى في سلسلة القوقاز الأصغر، فهي محاطة ببلدان العلاقات معها أكثر من صعبة، تركيا غرباَ وأذربيجان شرقاً، أو متقلبة وصعبة، جورجيا. لأجل هذا، تعدّ إيران مقارنة بهذه الجارات رحمة في أرمينيا، وان كانت الحدود الإيرانية الأرمنية ضيقة، مقارنة بحدودها مع دولتي الترك شرقها وغربها. زد على أنّ أرمينيا دولة داخلية غير متصلة ببحر، وسبيلها الى السواحل إما جورجيا وإما تركيا، في حين أنّ أذربيجان تطلّ على بحر، ولو كان داخليا، قزوين.

العودة إلى الخرائط أول شيء على المرء القيام به اذا ما أراد استيعاب شيء من الصراع المزمن، بين الأذريين والأرمن. واقعة الفصل الأرمني بين تركيا وأذربيجان هي واقعة أساسية لفهم الجغرافيا السياسية للقوقاز الأصغر أو الجنوبي.

مع نهاية ذلك القرن، جرى التحوّل في إيران الى أولية الثقافة باللغة الفارسية، على حساب الثقافة بالتركية الأذرية. لكن حتى بعد ذلك، شاهات الفترة ما بعد الصفوية، من أفشار وقاجار، كانوا أيضاً أذريين، وتسري في المرشد علي خامنئي دماء أذرية

معظم الأراضي التي تقوم عليها اليوم جمهوريات القوقاز الجنوبية (أذربيجان، جيورجيا، أرمينيا) كانت جزءاً من الإمبراطورية الإيرانية، أو من إيران شهر، في زمن الصفويين والقاجار، قبل أن يضمها الروس بعد حروبهم مع بلاد فارس القاجارية في مطلع القرن التاسع عشر. لكن أذربيجان التاريخية، المناطق التي يصفها التقليد الجغرافي كذلك، ما احتفظت به إيران، أي منطقة أردبيل وتبريز وزنجان. من الخطأ اذاً التعامل مع أذربيجان الإيرانية كما لو كان جزءا يشتاق للانضمام إلى أذربيجان القوقازية. إنه جزء تكويني أساسي من إيران. إيران كما أعيد تأسيسها في مطالع العصور الحديثة انبثقت من هذه المنطقة ومن هذه الثقافة. الراجح أنّ أصول صفي الدين الأردبيلي مؤسس الطريقة الصفوية (ت 1334) كردية، لكن ذريته اندمجت بالمعاش والثقافة التركمانيين الاذريين، وحين أقام أحد أحفاده، الشاه إسماعيل، صرح أول إمبراطورية شيعية في إيران، كان اسماعيل أذرياً في لغته ومعاشه، محاطاً بمعتمري الأحمر “القزلباش” من رجال القبائل التركمانية في أذربيجان والأناضول. ظلت أذربيجان مركز الإمبراطورية، التي اتخذت لها من تبريز ثم قزوين عاصمة، طيلة القرن السادس عشر، إلى أن جاء عصر الشاه عباس الكبير، ومع عباس كانت النقلة من محورية أذربيجان وقزوين إلى ردّ الاعتبار لإقليم فارس الجنوبي، بنقل العاصمة إلى أصفهان عام 1598. قبل هذه النقلة، كانت الثقافة الأذرية مهيمنة على البلاط الصفوي، تأسياً بذكرى إسماعيل المؤسس الذي كان يقرض الشعر بالتركية الأذرية، وله ديوان مذيل باسم “خطائي”، في مقابل السلطان سليم العثماني الذي كان يقرض الشعر بالفارسية. فقط مع نهاية ذلك القرن، جرى التحوّل في إيران إلى أولية الثقافة باللغة الفارسية، على حساب الثقافة بالتركية الأذرية. لكن حتى بعد ذلك، شاهات الفترة ما بعد الصفوية، من أفشار وقاجار، كانوا أيضاً أذريين، وتسري في المرشد علي خامنئي دماء أذرية. لأجل هذا المبالغة في تصوير أذريي إيران كما لو أنهم راغبين في التخفّف من إيرانيتهم والانضواء في بوتقة كل أذربيجان في غير محلها. قد يتنافسون مع سواهم داخل إيران لتحديد المنزلة والموقع من الإعراب، شأنهم في هذا شأن مازندران وقزوين وخراسان، إنما ليس هناك شبه مع الأقاليم والقوميات التي شهدت أو تشهد حركات انفصالية أو نصف انفصالية، كما عند البلوش أو عرب الأهواز أو الكرد. 

التقلّب في العلاقات الإيرانية الأذرية ليس مصدره اذا الخوف من تواصل أذربيجان الايرانية وأذربيجان القوقازية. بل هو يخضع لترموميتر العلاقات بين باكو وواشنطن

كان من الصعوبة تخيّل، كيف يمكن لكيانات جيورجية وأرمينية وأذرية أن تنشأ جنوب القوقاز الذي استولى عليه الروس على حساب القاجار مطلع القرن التاسع عشر. باكو مثلاً، عاصمة أذربيجان اليوم، كانت بأرجحية أرمنية ووجود يهودي كبير مطلع القرن الماضي، تفليسي كانت بدورها خليطاً من الأرمن والجيورجيين والأذر. قره باغ العليا، كانت تقطنها جماعة من الأرمن، لكن قره باغ السفلى كان بكثافة كردية. نشأة هذه الكيانات القومية – الإثنية المنفصل عن بعض، وسقوط أفق قيام كيان واحد، عابر لجنوب القوقاز، ترنسقوقازيا، له قصة طويلة ومريرة. وهذه القصة لم تنته بعد، وغير مرشحة ان تنتهي قريباً، ولا بعد نصف قرن. في هذه القصة المريرة، ليس تفصيلاً أنه عندما عقد الأذريون العزم على إنشاء جمهورية لهم في القوقاز عام 1918 وسموها أذربيجان لم يكن ذلك بمألوف. لأن أذربيجان كانت تعني وقتها تلك الإيرانية حصراً، وفي زمن روسيا القيصرية كان يشار لأذريي جنوب الإمبراطورية على أنهم “تتار القوقاز” في تمييز لهم عن تتار الفولغا (تتارستان داخل روسيا اليوم، وعاصمتها قازان) أو تتار القرم.

التقلّب في العلاقات الإيرانية الأذرية ليس مصدره إذاً الخوف من تواصل أذربيجان الإيرانية وأذربيجان القوقازية. بل هو يخضع لترموميتر العلاقات بين باكو وواشنطن. كلّ ما زادت الحرارة بينهما ساندت إيران أرمينيا، حتى إذا خفّت الحرارة عادت إيران لإيثار اللغة الاستيعابية المرنة بين طرفي النزاع. 

أما بين إيران وتركيا، فلم يعد هناك اساس للمشكلات حادة بينهما منذ انتهاء زمن الأطماع الترابية بين البلدين، فالعلاقات إذاً متفاوتة بين لحظة وأخرى، وبين ملف وآخر، لكنها غير تصادمية، ولا تشعر إيران أبداً انه بينها وبين تركيا احتمال حرب بالوكالة جنوب القوقاز، مثلما أنّ الهوى الأميركي في أذربيجان عاد فتأقلم سنة بعد سنة مع سياسة متفاعلة أكثر مع روسيا ومع إيران، منذ ذي قبل. مصلحة إيران في إبقاء الوضع على ما هو عليه: أنه لا أفق لتغيير أيّ حدود. لا أفق بالنسبة إلى الكيان الأرمني “أرتساخ” في أذربيجان الغربية ليعترف العالم به، من أيّ دولة بالعالم، بما في ذلك من أرمينيا التي لا تعترف de jure بجمهورية ارتساخ هذه التي رعت هي أقامتها هي في كاراباخ. في الوقت نفسه، إيران ضدّ تقويض سيطرة الأرمن في كاراباخ، وضدّ فرض حدود جديدة من أيّ نوع. مع الالتزام بالحدود القائمة، سيما وأنّ قراراً دولياً صدر عام 1993 يشدّد على ذلك، ويطلب من قوات يريفان الانسحاب. 

لم ينتهِ هذا الصراع في حياتنا، ولنا إكمال الحديث من بعد استنطاق الخرائط السياسية والتقنية باستنطاق طبيعة النظام السياسي في البلدين وسمات الاحتدام والتصادم حالياً. يبقى أنه، وكما أنّ أرمينيا تسهّل أمور العشق بين أذربيجان وتركيا كونها تقف حجر عثرة دون اجتماع شملهما، ودون نظر كلّ منهما في صحن الأخرى، فإن أرمينيا لا يكفيها التواصل البري مع إيران، لأن الحدود الأرمنية الايرانية ضيقة، وجبلية، وهي بحاجة لمتنفس بحري، يصلها بالبحر الأسود، ولهذا بالقدر نفسه الذي تسأم فيه أرمينيا من الدوامة التركية الأذرية، فإن قضيتها الضمنية هي فك الحصار الاقتصادي التركي عنها، وليس اشتداده عليها. 

 

إقرأ أيضاً

باسيل بعد جعجع: دفع الثمن مرّتين!

ثمّة خصامٌ شديدٌ بلغَ أحياناً حدّ العداء الشرس، بين سمير جعجع وجبران باسيل، بصفة الأخير وريثاً لميشال عون. مع أنّه لا دمَ مباشراً بين الاثنين….

يحيى جابر يفتح جرح جمّول: بيّي… حارب وانهزَم بِعَنجَر

في حين يبحث الحزب عن شرعية وطنية بين رميش والهبّارية، ليقول إنّ إسرائيل تقصف كلّ الطوائف… يفتح يحيى جابر جرح اغتيال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية…

أزمة المعارضة اللبنانية… السياسة دون أهلها

في لبنان معارضات كثيرة. معارضات لا تجتمع تحت سقف أو تتوحّد حول هدف معيّن أو مطلب محدّد. على الرغم من ذلك تنادي كلّها بالأهداف وبالمطالب…

اجتياح رفح: الخلاف “التكتيكي” بين بايدن ونتنياهو

واشنطن ترفع بطاقة صفراء في وجه إسرائيل. لكنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو مستمرّ في المناورة والمماطلة في المفاوضات والتهديد بمواصلة الحرب واجتياح رفح. يراهن…