أحرقوا زها حديد في بيروت… والمحافظ لـ”أساس”: لا تلحيم بعد اليوم!


هل أخطأت زها حديد عندما اتخذت من بيروت مكاناً لتخلّد آخر وأجمل إبداعاتها الهندسية؟ وهل أخطأت عندما ظنّت أنّ اللبنانيين سيحافظون على هذا الإرث المعماري الفريد؟

ففي بلادنا باتت مساحات الإبداع ضيّقة، وأضيق على احلامنا، نحن الحالمين بعاصمة تليق بماضينا وطموحاتنا. فكلّ الأماكن هنا قضمها وحش الفساد، وعربش عليها غبار الإهمال، وملأتها العشوائية المدمّرة، وآخر إبداعات مآسينا نكتة “التلحيم”، كرواية جديدة تكتب الفصل الأخير من أيّام بيروت وعزّها.

إقرأ أيضاً: سيناريو “التلحيم” ينفّذ غارة جديدة على مرفأ بيروت

منذ الرابع من آب ونحن لسنا “على بعضنا” كما يُقال. فالفتات المتبقّي من بعضنا نراه يحترق أمامنا في مواسم تلحيم مستغربة يوماً بعد يوم، وتحترق مع مسلسل “التلحيم” الذاكرة البيروتية، أعصاب البيروتيين، وأحلام سكّان هذه المدينة وعشّاقها، على امتداد “ورشة” تحرق ما تبقى لنا من إرثٍ عظيم.

كان آخر هذه المواسم احتراق المبنى الهندسي – الأيقونة في وسط بيروت، المخصّص لشركة “AISHTI” للألبسة، وسط ظروف غريبة، أعادت “الملحّم – البطل” إلى الواجهة من جديد. فهذا المبنى ليس ببناء عادي وليس مجرّد بناء فاخر، بل هو من آخر تصميمات المهندسة العالمية الراحلة زها حديد. وهو يضاهي بهندسته المعمارية المبتكرة خرائط أفخر المباني حول العالم، وتصل ميزانية المشروع الذي لم تنتهِ أعمال البناء فيه بشكل نهائي بعد، إلى أكثر من 40 مليون دولار أميركي .

طلب محافظ بيروت الاشتراط على أصحاب ورش التلحيم، أو أيّ ورشة ذات عمل مشابه، اتّباع أقصى درجات الحذر والتأكد من السلامة العامة وإبعاد المواد الملتهبة وسريعة الاشتعال عن محيط التلحيم، وأن يكون في كلّ ورشة إطفائية خاصة بها لتفادي اشتعال أيّ حريق

في اليوم نفسه شبّ حريق في المدينة الصناعية خلف المدينة الرياضية في بيروت، وانتشرت أخبار عن أنّ “التلحيم” هو السبب أيضاً.

لكنّ الأكيد أنّ ما يحصل في بيروت يكاد يصل إلى مرتبة اللعنة. ربما تكون مدبّرة لكنّ الأكيد أيضاً أنّها ليست وليدة مصادفات “تلحيمية”.

يؤكد محافظ بيروت القاضي مروان عبود في حديث لـ”أساس” أنّ المعطيات الأولية حول الحريق الحاصل في مبنى زها حديد في بيروت تشير إلى استعمال مواد شبيهة بالتلحيم، وهي، بحسب ما أفاد عناصر فوج إطفاء بيروت، في تواصلهم مع المحافظ، عبارة عن أعمال تركيب عوازل في المبنى باستعمال “الفرد الناري” أو المعروف “بالشلمون” و”فرد اللهب”، ما أدّى إلى اشتعال “الفايبر غلاس” أو “الزجاج الليلفي”، سريع الاشتعال، الذي يستعمل عادة في ديكور المنازل والأبنية، بالإضافة إلى بعض المواد اللاصقة السريعة الاشتعال أيضاً. وما زاد من تأجّج الحريق وجود قناني أوكسجين بجانب الورشة، لاستعماله في عملية تلحيم العوازل تلك.

يكشف عبود لموقعنا عن التعميم الذي هو بصدد إصداره اليوم في ما يخصّ ورش التلحيم في نطاق بيروت، ويتضمّن تعليمات مشدّدة لشرطة بيروت لمراقبة ومتابعة شروط  السلامة العامة في الورش التي قد تهدّد أمن المواطنين وسلامة المدينة. وطلب الاشتراط على أصحاب ورش التلحيم، أو أيّ ورشة ذات عمل مشابه، اتّباع أقصى درجات الحذر والتأكد من السلامة العامة وإبعاد المواد الملتهبة وسريعة الاشتعال عن محيط التلحيم، وأن يكون في كلّ ورشة إطفائية خاصة بها لتفادي اشتعال أيّ حريق في حال حصول أيّ حادث خارج عن السيطرة. كما كلّف عبود بموجب التعميم قوى الأمن بمراقبة تطبيق هذه الإجراءات المشدّدة في كلّ ورشة وتوقيفها عن العمل فوراً في حال ثبت عدم مراعاتها للإجراءات الاحترازية اللازمة.

الأكيد أنّ ما يحصل في بيروت يكاد يصل إلى مرتبة اللعنة. ربما تكون مدبّرة لكنّ الأكيد أيضاً أنّها ليست وليدة مصادفات “تلحيمية”

ورداً على سؤال “عما إذا كان هذا يعني أن لا تلحيم في بيروت بعد اليوم؟” يجيب القاضي عبود: “للأسف تكرار هذه الحوادث خلال الفترة الأخيرة يدفعني لأصدر تعميماً بتشديد الإجراءات، وفرض شروط مشدّدة جداً على أصحاب الورش انطلاقاً من اعتبار هذه العمليات خطرة على السلامة العامة بعد تكرار هذه الحوادث بشكل مستغرب، لأنّ القضية أصبحت (مسخرة) في نهاية المطاف”. ولا يستبعد المحافظ نظرية افتعال هذه الحوادث: “فلا أعلم إن كانت هذه الحوادث صدفة أم لا… لكن التحقيقات مستمرة والإجراءات ستكون مشدّدة جداً حول هذا الموضوع من اليوم وصاعداً”.

إلى جانب هذه الإجراءات، قام عبود بتكليف فوج الإطفاء ومديرية المؤسسات المصنفة التابعة لبلدية بيروت بالقيام بجردة على جميع المستودعات والمواد الخطرة في بيروت للتأكد من توفّر شروط السلامة العامة فيها أو إقفالها: “وطلبنا من المواطنين التبليغ عبر الخط الساخن لفوج إطفاء بيروت، على الرقم 127، عند الاشتباه بأيّ حالة غريبة في محيطهم، حتّى لو كان الاشتباه عبارة عن تخزين سيء للغاز في منزل جارهم، وبالتأكيد يجب التبليغ فوراً عن المستودعات التي تشكل خطراً عليهم وعلى أولادهم لنتخذ ما يلزم من إجراءات بحقها”.

المهندسة المعمارية العالمية الشهرة زُهاء محمد حسين حديد اللهيبي، المعروفة بـ”زُها حديد”، هي مهندسة عراقية بريطانية، درست الرياضيات في جامعة بيروت الأميركية في بيروت في العام 1971، قبل أن تتخرّج في العام 1977 من الجمعية المعمارية في لندن، وتعمل كمعيدة في كلية العمارة وتنتظم كأستاذة زائرة في جامعات عالمية، منها هارفرد وشيكاغو وهامبورغ وأوهايو وكولومبيا ونيويورك وييل.

أحبّت زُها بيروت إلى درجة أنّها تركت فيها أيقونة هندسية بحجم المبنى الذي احترق اليوم وواحدة أخرى هي متحف الفنون الحديثة في الجامعة الأميركية. هي التي توفيت في ميامي الأميركية العام 2016 بعد أن تركت وراءها إرثاً معمارياً عريقاً على امتداد 44 دولة حول العالم منها لبنان، وفي رصيدها 950 مشروعاً مبتكراً.

عُرفت الراحلة بالتزامها بالمدرسة التفكيكية واهتمت بالنمط والأسلوب الحديث في التصميم، وتميّزت أعمالها بالخيال. إذ كانت تضع تصميماتها في خطوط حرّة سائبة لا تحدّدها خطوط أفقية أو رأسية. كما تميّزت أيضًا بالمتانة، إذ كانت تستخدم الحديد في تصاميمها. ومن أبرز مشاريعها الرائدة نذكر: محطة إطفاء الحريق في ألمانيا، مبنى متحف الفن الإيطالي في روما، جسر أبو ظبي، مركز لندن للرياضات البحرية، محطة الأنفاق في ستراسبورغ، المركز الثقافي في أذربيجان، المركز العلمي في ولسبورغ، محطة البواخر في سالرينو، ومبنى البنك المركزي العراقي الجديد… وهي من أبرز المشاريع التي أوصلت حديد بجدارة إلى العالمية. حتى كانت أول سيدة تحصل على الميدالية الذهبية الملكية البريطانية ضمن جائزة ريبا للفنون الهندسية، وعلى وسام الإمبراطورية البريطانية والوسام الإمبراطوري الياباني وجوائز هندسية عالمية عديدة جعلت منها أرقى مهندسة في العالم من دون منازع.

هذه هي زُها حديد التي كان للبنان حصة من إرثها العظيم، والتي أحرقنا جزءاً من وديعتها المعمارية في بيروت أمس، لتشهد نيران هذه الوديعة المتصاعدة مرة جديدة على أنّ ألسنة لهب الفساد والإهمال أكبر من إيماننا ببلدنا ومن إيمان العظماء به أيضاً.

إقرأ أيضاً

حين “يَعلَق” موكب ميقاتي بعجقة السير!

تتّسع دائرة الجفاء والتباعد على خطّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام المولوي والمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. آخر الأخبار تؤكّد…

انتخابات روسيا: المسلمون واليهود صوّتوا لبوتين.. لماذا؟

حقّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الروسية التي أُجريت بين 14 و17 آذار الجاري. وإذا كان الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد…

حلفاء “المحور” في لبنان… يخططون لـ”ما بعد طوفان الأقصى”

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت في الأسبوع الفائت إنعقاد لقاء لقوى ومنظمات حزبية من محور الممانعة، منها قيادات في الحزب والجماعة الإسلامية وحركة حماس، وذلك بهدف…

هل يُسلّم البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز؟

من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات في انفجار المرفأ. وكانت لديه مقاربته القانونية-الشخصية للتعقيدات التي كبّلت الملفّ…