زيارة هنيّة وشارع سليماني: محاولة إعدام درويش وكنفاني والعلي


حجب الوهج السياسي لزيارة رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” اسماعيل هنية، ملامح مشروع تدمير منهجي للثقافة والذاكرة والفنّ الفلسطيني شرعت الحركة في تنفيذه منذ مدّة طويلة.

يعنى هذا المشروع باستنساخ التجربة الإيرانية في محو أيّ خصوصية ثقافية لكلّ مجموعة بشرية تقع تحت سيطرتها، واختلاق سيرة ثقافية ومنظومة سلوكية جديدة تبدأ من لحظة وصولهم إلى سدة الحكم، وتعيد تعريف كلّ شيء تأسيساً على هذا الواقع.

إقرأ أيضاً: هنيّة في شارع سليماني بضاحية طهران البيروتية

مفصل 2007 كان حاسماً في ما يخصّ تكريس هذا التوجّه عند “حماس”. فإثر الخلاف مع حركة “فتح”، نشأ نزاع مسلّح تسبّب بسقوط عشرات القتلى وظهور مشهد مذبحة فلسطينية بأيدٍ فلسطينية. حينها كتب الشاعر الفلسطيني الأبرز محمود درويش قصيدة حملت عنوان “أنت منذ الآن غيرك” قال فيها:

“هل كان علينا أن نسقط من علوّ شاهق،

ونرى دمنا على أيدينا…  لندرك أنّنا لسنا

ملائكة كما كنا نظنّ؟”.

يتساءل درويش في هذا المقطع بشكل يجمع الدراما المرّة بالسخرية عمّا إذا كان من الضروري تجربة السقوط من ارتفاع شاهق لمعرفة نتيجة مثل هذا الفعل، وعمّا إذا كان لا بدّ من أن يقتل الفلسطينيون بعضهم البعض من أجل اكتشاف أنّ مثل هذا العنوان ليس سوى انتحار سياسي وأخلاقي وثقافي.

في مقطع آخر من القصيدة نفسها يقول الشاعر:

“أنا والغريب على ابن عمّي.

أنا وابن عمي على أخي.

وأنا وشيخي عليَ.

هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة،

في أقبية الظلام؟”.

تفكيك بنى الثقافة والعلاقات والأسر والتواريخ، وتكريس قيم الانتماء الأيديولوجي العقائدي كمرجع أساسي لا يعلو عليه أيّ رابط آخر مهما كان، هو الصيغة الجديدة التي بثّتها “حماس” وغيرها من الجماعات المتطرّفة في قلب الثقافة العامة لشعوب المنطقة.

في حالة “حماس”، وبعد فترة من إطلاق الشاعر قصيدته الآنفة الذكر، استقبلت “حماس” على فضائيات تابعة لها شاعراً مغموراً يدعى عبد الرحمن يوسف، قدّم قصيدة معارضة لقصيدة درويش

رصد تاريخ حزب الله منذ ظهوره وحتّى هذه اللحظة يظهر تماهياً مطلقاً مع هذه النظرية، إذ إنّ الانتماء العقائدي يلغي كلّ ما سواه ويحرمه من القيمة والمكانة. ينسحب ذلك على كلّ روابط المرء الشخصية والعائلية والاجتماعية، والأهم على كلّ ما يحمله من إرث ثقافي.

تعمل هذه المنظومات على إعادة انتاج التاريخ والثقافة عبر عمليات تبدأ بالتحوير وصولاً إلى المحو التام. تولي كذلك عناية خاصة بما يمكن أن نطلق عليه تسمية “حرب الرموز”، التي تهتمّ بخلق ذاكرة بصرية ولغوية عند عموم الجماهير، لإجبارها على الاستجابة لشبكة من المعاني غير المقبولة وغير المألوفة عبر آلية التكرار المقرون بالتخويف والتهديد.

مثلاً في حالة “حماس”، وبعد فترة من إطلاق الشاعر قصيدته الآنفة الذكر، استقبلت “حماس” على فضائيات تابعة لها شاعراً مغموراً يدعى عبد الرحمن يوسف، قدّم قصيدة معارضة لقصيدة درويش يتهمه فيها بالخيانة قال فيها:

“أخي ذاك بدَّد أثداء أمي – التي أرضعتك وكنت تحنّ لقهوتها –

في نوادي القمار

فكيف أُلام بحجري عليه وفيه جميع العته”.

طبعا لا يخرج مثل هذا الردّ على أدبيات المنظومة الممانعة في التخوين والشتم. لكن قد يكون من الجائز السؤال عن اللجوء المتكرّر إلى مثل هذا الأسلوب الخالي من المعنى والقيمة، وما الذي يجعله بمثابة نهج معتمد لدى كلّ هذه الحركات؟

الممانعات الإيرانية الهوى والملامح اكتشفت منذ فترة أنّ المجال الذي لم تستطع إحكام قبضتها عليه، والذي لا يزال يشكّل مسرحاً لممانعة ممانعتها بشكل جدّي، إنما يكمن في الفن والثقافة

الفكرة أنّه في ظلّ وضع طبيعي وعادي، فإنّ مثل هذا الخطاب لن يستجرّ سوى السخرية والاستهزاء، لكنّه إذا خرج إلى النور مدعوماً بسطوة أمنية وعسكرية بلا ضوابط ولا حدود فإنه يتشرعن، لا بل يصبح فنّاً أو أدباً وشعراً بشكل حصري.

توفي محمود درويش بعد عام من معاينته قتالَ الإخوة، فما كان من “حماس” سوى أن فتحت موقعها الرسمي لتلقي التبريكات والتهاني بوفاته، وهذا الأمر لم يكن ممكناً إذا جرى خارج فعل السطوة المتعسكرة.

بعد ذلك وفي العام 2015، أصدرت “حماس” قراراً بتغيير اسم “مدرسة غسان كنفاني الأساسية للبنات” في رفح  إلى اسم جديد هو “مرمرة”، وهو تركي. أثارت هذه الفعلة ردوداً غاضبة وأنكرت “حماس” إقدامها على هذا الأمر، لكنّ وثيقة صادرة عنها خرجت إلى العلن وبرهنت أنّ مشروع تدمير الإرث الثقافي الفلسطيني، إنما يقع في قلب منظومتها الأيديولوجية وليس على هامشها.

اكتسبت زيارة هنية الآن إلى لبنان طابع استكمال هذا المشروع من بيروت. الممانعات الإيرانية الهوى والملامح اكتشفت منذ فترة أنّ المجال الذي لم تستطع إحكام قبضتها عليه، والذي لا يزال يشكّل مسرحاً لممانعة ممانعتها بشكل جدّي، إنما يكمن في الفن والثقافة.

الحرص على تسمية شوارع بيروت بأسماء القتلة، من مصطفى بدر الدين إلى قاسم سليماني، يأتي ليتكامل مع ثقافة المحو التي يعيش لبنان أخطر لحظاتها مع محو مرفأ بيروت بكلّ ما يختزنه من تاريخ وثقافة ورمزية عيش منفتح.

ما كان يقال من كلام في الخفاء وفي الجلسات الخاصة من انتقاد شرس ضد كلّ المنظومة الحاكمة وعلى رأسها حسن نصر الله، تحوّل إلى خطاب يومي وعلني على وسائل التواصل الاجتماعي وفي مقالات الكثير من الكتّاب والصحفيين

أن يقال إنّ بيروت هي بيروت سليماني، بالتزامن مع مشهدية وصول هنية إليها وصوره في مخيم عين الحلوة محاطاً بالمسلّحين ومحمولاً على الأكتاف، ليس أقلّ من إعدام رمزي ميداني لمحمود درويش، غسان كنفاني وناجي العلي، وكلّ ما تختزنه الذاكرة اللبنانية من صور مشرقة لأقطاب الثقافة الفلسطينية، ومحاولة استبدالها بما تعكسه صور القتلة من معانٍ ومفاهيم.

حين تلتقط عين المشاهد اللافتات التي تحمل أسماء القتلة وصور هنية، فإنها ستستحضر حتماً لغة الموت وصورة مدينة تقيم في خرابها وتتبنّاه.

لماذا قرّر هنية أن يطلق صواريخه الخلّبية على إسرائيل من بيروت تحديداً، وفي هذا التوقيت تحديداً؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن مفاعيل تفجير المرفأ أنتجت ردود فعل خيّبت آمال منظومة الممانعة في توظيفه لتوكيد هيمنتها، وتحويلها إلى هيمنة شاملة ومطلقة تشمل الثقافة والفنّ واللغة.

أبرز هذه الردود تمثّلت في الثقافة قبل كلّ شيء، فبدل أن تسود لغة الانكفاء وثقافة الرعب، بدا أنّ ردّ الفعل على دمار الانفجار تبلور في تدمير حواجز الخوف والحذر.

ما كان يقال من كلام في الخفاء وفي الجلسات الخاصة من انتقاد شرس ضد كلّ المنظومة الحاكمة وعلى رأسها حسن نصر الله، تحوّل إلى خطاب يومي وعلني على وسائل التواصل الاجتماعي وفي مقالات الكثير من الكتّاب والصحفيين، بشكل يمكن النظر إليه بوصفه ظاهرة ثقافية يمكنها في حال نجحت أن تخلق تراكماً معيّناً، وأن تؤسس لفضاء سياسي جديد.

من هنا تكون بيروت قد أفشلت من جديد مشروع اغتيال الثقافتين اللبنانية والفلسطينية بتكريسها لزمن الجريمة وثقافتها بوصفه “خطاباً عابراً في كلام عابر”، كما قال الشاعر، وتأكيدها أنّ ما يبقى هو ما كان وسيكون على الدوام، أي الحياة التي تلفظ الموت وصنّاعه مهما بلغت سطوتهم.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…