السنّي والشيعي والمسيحي بعد مئة عام


بعد مئة عام على إعلان لبنان الكبير، علينا جميعاً أن نقتنع أنّ قدر اللبنانيين مسيحيين ومسلمين بكافة مذاهبهم وفرقهم، أن يعيشوا سوياً، فوطنهم وكما قال الرئيس صائب سلام، وهو أجمل ما قيل: “لبنان أكبر من أن يُبتلع وأصغر من أن يُقسّم”. وإذ كنّا نعتقد أنّ كلامه موجّه للخارج، فإنّ الحقيقة التي نكتشفها يوماً بعد يوم أنه موجّه للداخل.

لا يخلو خطاب لكاتب سنّي من مفردة الدولة. كما لا يخلو خطاب لكاتب مسيحي من مفردة الكيان. وكذلك الأمر، لا تجد نصاً لكاتب شيعي خالياً من مفردة الدم والشهادة وما له علاقة به. هو ليس بالأمر المستغرب إلاّ أنّ أهميته تكمن في رصد هذا الواقع، ومن ثمّ في قراءته لاستنباط الأفكار الموحّدة والجامعة. على حد قول نهاد المشنوق منسّق كلمات الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

إقرأ أيضاً: المئوية: المفتي نجا.. اللبناني الذي قال لا لـ”غورو”

السُنّة عبر التاريخ، ما تصرّفوا يوماً بمنطق أنّهم طائفة من الطوائف، بل اعتمدوا وأوغلوا لدرجة الترف في ذلك، في تعريف أنفسهم على أنهم “أمّة” بمعناها الحاضن للجميع، المترفّعة عن المصالح الفردية والصغيرة.

السُنّة ينظرون إلى البعيد في قراءة التاريخ والتخطيط للمستقبل، وفي التعامل مع الآخرين، هم تراكم لفكر الدولة، وتاريخهم هو تاريخ دول من خلافة أبي بكر الصديق وتكريساً في خلافة عمر بن الخطاب، مروراً بالدولة الأندلسية الباهرة.

لقد وجد المسيحيون أنفسهم، تحت ضغط الكثرة العددية بوجودهم في بحر من المسلمين في الشرق. فكانوا ومنذ عهد العثمانيين، سُعاة لتكوين الكيان الخاص بهم. فاستحصلوا على قانون الوقف، وعلى الإعفاء من الخدمة العسكرية لرجل الدين

لقد بُني فقه السُنّة، الخاص بمعاملاتهم وعباداتهم، على منظومة الدولة، أي وجود المؤسسة الحاكمة، وفقاً للاجتهادات الفقهية السائدة وللقوانين. وهو ما جعل السُنّة على ارتباط مصيري مع  فكرة الدولة التي بات وجودها، يعني وجودهم، ونهايتها تؤشر على نهايتهم. فولدت مع الوقت مفردات شعبية معبّرة في المسار السياسي للسُنّة وتحديداً في لبنان. “أم الصبي”، “الوعاء الكبير”، وصولاً إلى عبارة الرئيس الشهيد رفيق الحريري “ما حدا أكبر من بلده”.

بالمقابل، وعلى عكس ما هو سائد في بعض المقالات، لطالما كان تمسك المسيحيين في لبنان بمصطلح “الكيان”. وهو مصطلح، اختلط على البعض الذي اعتبره مرادفاً لمصطلح “الدولة”، فيما الأمر غير صحيح مطلقاً، لا لغوياً، ولا سياسياً، وفي علم الاجتماع.

لقد وجد المسيحيون أنفسهم، تحت ضغط الكثرة العددية بوجودهم في بحر من المسلمين في الشرق. فكانوا ومنذ عهد العثمانيين، سُعاة لتكوين الكيان الخاص بهم. فاستحصلوا على قانون الوقف، وعلى الإعفاء من الخدمة العسكرية لرجل الدين. فقد ذكر الدكتور خالد الجندي في دراسته “النصارى في العهد العثماني، في ضوء الوثائق العثمانية” وهو أستاذ لمادة التاريخ في الجامعة اللبنانية: “لقد كان أهل الذّمة في الدولة العثمانية محلّ احترام، فقد أُعفي بعضهم من دفع هذه الجزية كرجال الدين والمرضى والمسنّين والعاطلين عن العمل، كما لم يكونوا مجبرين على الانخراط في الجيش..”. فتضخّم الوقف المسيحي، ومعه طائفة الكهنة والرهبان. وكلّ ذلك بفعل القانون العثماني الذي سعى إليه بطريرك المسيحيين الياس الحويك في حينه.

تطوّرت العبارة مع الزمن، حتى كان الشعار في الحرب الأهلية منذ العام 1975: “أمن المجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار”. عبارة يكفي أن تضعها على ورقة واحدة مع عبارة رفيق الحريري التي ذكرناها سابقاً “ما حدا أكبر من بلده” لتدرك الفرق بين الدولة والكيان. ففي العبارة الأولى، تخصيص لفكرة الكيان، عبر مقولة المجتمع المسيحي. وفي العبارة الثانية ارتفاع بقدسية الدولة عبر مقولة “بلده”.

تجمّع الشيعة تحت شعار الانتقام لمقتل الإمام الحسين. والشعار تطوّر حتى يومنا، حيث بات شعار “يا لثارات الحسين”، ترجمة لفكرة الانتصار للدم بالدم ليس من القاتل أو من يتمّ تنسيبه إليه لاحقاً فقط، بل من الطائفة الشيعية بحدّ ذاتها

المسيحيون في لبنان هم في هاجس دائم عبر التاريخ، يكمن بالسعي لتأمين الكيان، هاجس طبيعي، يفرضه الرهاب الأقلوي، الذي يسعى لتحصين مزرعته ومنزله وحماية عائلته وسط الصحراء الكبرى أو الغابة المشجّرة الكبرى.

من جهتهم الشيعة، من حيث التسمية، اكتسبوا معنى الفرقة أو الطائفة، وليس معنى الأمة. فالتسمية تشير الى أنّهم شيعة الإمام علي، أي فرقته أو أنصاره وأنصار أبنائه من بعده، وعلى رأسهم الإمامين الحسن والحسين.

لقد توارث الشيعة كفرقة سياسية، ومن ثَمّ عبر تطوّرهم إلى مذهب فقهي، فكرة مظلومية الدم مع مقتل الإمام الحسين، مع العلم أن الإمام الحسن قد قُتل مسموماً بدوره، بعدما كانت البداية بفكرة مظلومية الحق السياسي، مع عدم تولي الإمام علي الخلافة بعد وفاة النبي محمد.

تجمّع الشيعة تحت شعار الانتقام لمقتل الإمام الحسين. والشعار تطوّر حتى يومنا، حيث بات شعار “يا لثارات الحسين”، ترجمة لفكرة الانتصار للدم بالدم ليس من القاتل أو من يتمّ تنسيبه إليه لاحقاً فقط، بل من الطائفة الشيعية بحدّ ذاتها، عبر اتهام الذات بجريمة الخذلان للإمام الحسين، فيأتي الانتقام من الذات باللطم وشقّ الرأس  كفعل ندامة.

لبنان أكبر من أن تبتلعه طائفة واحدة سُنة أو شيعة، موارنة أو أورثوذكساً، علويين أو دروزاً، وأصغر من أن تَعْمد كلّ هذه الطوائف إلى تقاسمه.

 

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…