“مذكّرة الحياد” بوجه “العهد”.. فهل يقتدي الراعي بصفير ويدعوه إلى “الاعتزال”؟


حذا البطريرك الماروني بشاره الراعي حذو جميع أسلافه البطاركة، في التمايز أو الافتراق عن “العهد” ورئيس الجمهورية، بحلول منتصف ولايته. وقد كان “نداء الحياد”، ومن بعده “مذكرة الحياد” التي أعلن عنها أمس، بمثابة إعلان الافتراق البطريركي عن سياسات العهد الحالي، تماماً كما كان “نداء المطارنة” في أيلول العام 2000 عنوان افتراق البطريرك نصر الله صفير عن عهد الرئيس إميل لحود. مع الأخذ في الاعتبار اختلاف ظروف كلا المرحلتين، وكذلك اختلاف شخصية كلٍّ من البطريركين والرئيسين.

إقرأ أيضاً: كارثة بيروت أكّدت الحاجة إلى “الحياد”

وقد أعلن البطريرك الراعي أمس “مذكرة لبنان والحياد الناشط”، في توقيت سياسي دقيق جداً عقب التفجير الهائل في مرفأ بيروت في 4 آب الجاري، وقبل يوم من إطلاق المحكمة الدولية بلبنان حكمها النهائي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

والحال، فإذا كان مضمون المذكرّة قد تأسّس على وقائع سياسية واقتصادية سابقة على هذين الحدثين الجللين، فإنّ صدورها بهذا التوقيت بالذات يربطها مباشرة بالأسئلة السياسية المطروحة في البلاد، خصوصاً بعد الجريمة المروّعة في مرفأ بيروت التي حمّل الشعب وأطراف سياسيّة المسؤولية السياسية عنها للسلطة القائمة ولاسيّما العهد والحكومة، تماماً كما حُمّلت السلطة السياسيّة في العام 2005 المسؤولية السياسية عن جريمة اغتيال الحريري.

“مذكرة الحياد” هي بمثابة إعلان الافتراق البطريركي عن سياسات العهد الحالي، تماماً كما كان “نداء المطارنة” في أيلول العام 2000 عنوان افتراق البطريرك نصر الله صفير عن عهد الرئيس إميل لحود

ولعلّ السؤال الأهمّ الذي فرضه تفجير المرفأ، الذي كان الراعي معنيّاً به مباشرة، هو سؤال استقالة الرئيس ميشال عون. لكنّه سؤال ما يزال حتّى اللحظة دون جواب، مع العلم أنّ الراعي بمناشدته رئيس الجمهورية في “نداء 5 تمّوز” فكّ الحصار عن “الشرعية والقرار الوطني الحر”، ثمّ بحديثه لاحقاً أنّ لبنان بات دولة منحازة، أعلن مكمن العطب الرئيسي في الدولة اللبنانية والذي من دون معالجته لا يمكن ضمان “عدم دخول لبنان في تحالفات ومحاور وصراعات سياسية وحروب إقليمية ودولية”، كما لا يمكن إجبار أيّ دولة على “الامتناع عن التدخّل بشؤونه”، كما جاء في “مذكرة الحياد”.

فهل يجيب البطريرك عن سؤال استقالة الرئيس بوصفه سؤالاً لازماً لفتح الباب السياسي نحو “حياد لبنان؟

البطريرك والرئيس

بمراجعة علاقة البطاركة الموارنة برؤساء الجمهورية، من الذين تعاقبوا على بكركي منذ الاستقلال، يمكن الملاحظة أنّها كانت تسلك مساراً مختلفاً عند انتصاف الولاية الرئاسية تقريباً، وخصوصاً إذا كان تمديد الولاية الرئاسية أمراً مطروحاً:

1 – هذا ينطبق على البطريرك أنطوان عريضة (1932-1955) الكتلوي الهوى مع الرئيس بشارة الخوري. إذ شابت علاقتهما الخلافات، وقد قبل البطريرك متأخراً وعلى مضض بالتمديد للرئيس في العام 1948، ثمّ أيّد أو مال إلى معارضيه في العام 1952 من دون أن يؤيد إسقاطه في الشارع باعتبار أنّه الأوّل بين ابطال الاستقلال.

2 – ثمّ بين البطريرك بولس المعوشي (1955- 1975) والرئيس كميل شمعون. إذ تدرّجت الخصومة بينهما حتّى بلغت ذراها في العام 1958 لدرجة أنّ أنصار شمعون لقّبوا البطريرك بـ “محمد المعوشي”، باعتبار أنّه أيّد موقف الغالبية المسلمة المناوئة لشمعون. لكن وبالرغم من ذلك، فإنّ المعوشي رفض إسقاط شمعون في الشارع، ثم دعاه في المقابل إلى “ترك الحكم، والسفر إلى الخارج، ووضع الحكم في مرحلة انتقالية في عهدة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب”.

لم يأخذ المعوشي موقفاً سلبياً من الرئيس شهاب بداية عهده، وآزره خلال محاولة القوميين السوريين الانقلاب عليه في العام 1961. لكنّ العلاقة بينهما ما لبثت أن ساءت، فصارح البطريرك الرئيس الأميركي جون كيندي خلال نزهة قصيرة في حديقة البيت الأبيض في العام 1962 (لأنه لم يشأ الكلام في المكتب خشية أن ينقل أحد في الوفد المرافق كلامه إلى “المكتب الثاني”) بأنّه لا يرغب بالتمديد لشهاب. ثمّ في العام 1964، استاء البطريرك استياءاً شديداً من إسقاط ريمون إده وكميل شمعون في الانتخابات النيابية، فأعلن رفضه تدخّلات “المكتب الثاني” في تلك الانتخابات.

هناك سابقتان دعا خلالهما البطريرك الرئيس إلى الرحيل أو اعتزال السلطة، وهما سابقتا المعوشي مع شمعون، وصفير مع لحود

3 – ومثل المعوشي، رفض البطريرك أنطون خريش (1975-1986) إجبار الرئيس سليمان فرنجية على الاستقالة في العام 1976، كما رفض المطالبات بتقصير ولاية الرئيس أمين الجميل عامي 1984 و1986.

4 – كذلك رفض البطريرك نصرالله صفير (1986-2011) إسقاط الرئيس إميل لحود في الشارع في العام 2005. لكنّه في المقابل، وتأسيساً على دعوة المعوشي شمعون لترك السلطة، دعاه لاعتزال الحكم. وهذا ما يكاد يغيب عن الذاكرة السياسية، إذ يُستحضر من تجربة صفير مع لحود رفضه إسقاطه بالقوة وليس طلبه منه الاعتزال. علماً أنّ ثّمّة رواية تقول إنّ الأميركيين يومها مانعوا سقوط لحود في الشارع خشية أن يشكّل ذلك سابقة في المنطقة، فيصار إلى اسقاط رؤساء بالقوة، ما يفتح الباب أمام فوضى إقليمية لم تتأخّر كثيراً أصلاً. وقد تولى رئيس المخابرات المصرية الراحل عمر سليمان في عهد الرئيس حسني مبارك إبلاغ وليد جنبلاط في ذلك الحين الموقف المصري – الأميركي.

إذاً، وفي المحصّلة التاريخية لمرحلة ما بعد الاستقلال، فإنّه يمكن الاستنتاج أنّ العلاقة بين البطريرك والرئيس، أيّ بطريرك وأيّ رئيس، تراوحت بين الحذر والريبة والخصومة وحتى العداء، وذلك لاعتبارات متّصلة بالسياسات الداخلية والخارجية للرئيس، وموقف بكركي منها. ولا يخلو الأمر طبعاً من العوامل الذاتية تبعاً لشخصية كلٍّ من البطريرك والرئيس. مع الأخذ في الاعتبار أنّ التجربة التاريخية للبطريركية المارونية جعلها تتجاوز حدود مرجعيتها الروحية للموارنة في تعاملها مع القضايا اللبنانية ومع مرجعية الموارنة السياسيّة ضمن النظام، أي رئيس الجمهورية، باعتبار أنّ لها دوراً سياسياً ووطنياً منذ قيام “لبنان الكبير”، لا يمكن لأحد تجاوزه، بما في ذلك رئيس الجمهورية.

اعتبر الراعي في 23 حزيران الماضي أنّ “وجه وطننا بات يسلك طريق النظام البوليسي”، وهو بذلك يذكّر بموقف المعوشي من تدخّلات “المكتب الثاني”، “ضدّ الحرية، وضدّ القيم الأخلاقية والدستورية”

كذلك يمكن الاستنتاج أنّ أياً من بطاركة ما بعد الاستقلال، ما حبّذ وما أيّد تمديد ولاية رئيس الجمهورية. لكنّ أيّا منهم في المقابل لم يدعم إسقاط الرئيس في الشارع. كما أنّ البطريرك خريش رفض تقصير ولاية الرئيس. لكن هناك سابقتان دعا خلالهما البطريرك الرئيس إلى الرحيل أو اعتزال السلطة، وهما سابقتا المعوشي مع شمعون، وصفير مع لحود.  

الراعي – عون

يمكن القول إنّه ومنذ “نداء 5 تموز” الماضي، أعلن البطريرك الراعي تمايزه عن سياسات الرئيس عون الخارجية والداخلية بعد أن كان طيلة الفترة الماضية مؤيداً له ما خلا بعض التمايزات العابرة.

فلجهة السياسة الخارجية للعهد، فإنّ كلّ فكرة البطريرك عن “حياد لبنان” يبرّرها الاختلال الحاصل في السياسة الخارجية لـ”الشرعية المحاصرة”. ولجهة سياسة العهد الداخلية، فقد اعتبر الراعي في 23 حزيران الماضي أنّ “وجه وطننا بات يسلك طريق النظام البوليسي”، وهو بذلك يذكّر بموقف المعوشي من تدخّلات “المكتب الثاني”، “ضدّ الحرية، وضدّ القيم الأخلاقية والدستورية”.

اليوم، ثمّة دعوات متكرّرة ومتصاعدة لاستقالة عون خصوصاً بعد انفجار المرفأ الذي فاقم حدّة الغضب الشعبي على العهد، لاسيّما أن المناطق المتضرّرة تسكنها غالبية مسيحية. وذلك لدرجة أنّ لا رئيس الجمهورية ولا أحداً من النواب أو الوزراء أو المسؤولين المؤيدين للعهد، قد استطاع زيارة هذه المناطق في مشهد يعكس حجم السخط الأهلي ضدّ العهد.

يحصل ذلك في وقت تحاذر الأحزاب المسيحية الكبرى المطالبة باستقالة عون باعتبار أنّ موقع رئاسة الجمهورية هو الموقع المسيحي الأول في النظام السياسي، وما كان ممكناً لجهة الدعوة لاستقالة الرئيس قبل اتفاق الطائف، لم يعد ممكناً بعده بالنظر إلى أنّ رئيس الجمهورية بات منزوع الصلاحيات. والدعوة إلى استقالته أو إسقاطه في الشارع، هما إمعان في إضعاف رئاسة الجمهورية. ومن جهتها، تحاذر الأوساط السياسية الإسلامية المطالبة باستقالة الرئيس ما دامت الأحزاب المسيحية تغفل عن هذه المطالبة، وما دامت بكركي على تحفّظها التاريخي لهذه الناحية.

 لكن ثمّة رأي يقول إنّه وبغضّ النظر عن الأصوات السياسيّة المطالبة باستقالة عون، فإنّ السخط الشعبي عليه في تفاقم خصوصاً في الساحة المسيحية، وهذا معطى لا يمكن تجاهله. بالتالي، فإنّ الراعي، وإن كان لا يسعه الطلب إلى عون تقديم استقالته.

وهناك رأي آخر يقول إنّه، وكما طلب صفير من لحود اعتزال الحكم داعياً إياه إلى “تحمّل مسؤولياته أمام الله والتاريخ”، “لأنّ المؤسسات الرسمية بات ينكر بعضها بعضاً”، فإنه يمكن للراعي اليوم أن يؤسّس على سابقة سلفه فيدعو عون إلى اعتزال الحكم، “بعدما بات الشعب ينكر رئيس الجمهورية”، وبعدما بات “حصار الشرعية” حائلاً دون حياد لبنان و/أو تحييده.

إقرأ أيضاً

هل يزور البخاري فرنجية قريباً؟

يلتقي سفراء اللجنة الخماسية الرئيس نبيه برّي مجدّداً بداية الأسبوع المقبل لوضعه في حصيلة اللقاءات مع القوى السياسية. بعد ذلك، لا “برمة” جديدة لممثّلي واشنطن…

لقاءات الخماسية: بحث عن رئيس.. في كومة قشّ الخصومات

عادت اللجنة الخماسية إلى الساحة اللبنانية، لكنّ عودتها كانت قد سبقتها اجتماعات في واشنطن بين الأميركيين والفرنسيين. وعلى أساس توزيع الأدوار والتنسيق في معالجة الملفّات…

الكويت بين “هارفرد” و”إيلينوي”… الصِّدام الحتميّ

يقول التاريخ الكويتي إنّ رئيس الوزراء الذي يذهب لا يعود. أي أنّه يرأس حكومات متتالية ثمّ يمضي من دون أن يأتي مرّة جديدة على رأس…

“سابقة موريس سليم”: الطعن بتعيين رئيس الأركان!

 سجّل وزير الدفاع موريس سليم سابقة لم تعرفها حكومات ما قبل الطائف ولا بعده من خلال الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار تعيين رئيس الأركان…