“الكربجة” اللبنانية عصية على الانهيار


كابدَ البلد سنوات عديدة من “الكربجة”، أقله منذ أفرزت انتخابات حزيران 2009 أكثرية سياسية مؤتلفة برلمانياً، ما لبثت ان تحلّلت في اليوم التالي لإذاعة النتائج. سبب الكربجة وقتها، ومن وقتها: أنّ “حزب الله” الذي كان يمنّي النفس، عشية ذلك الاستحقاق، وارتكازاً على اللاتوازن الداخلي المكثّف في هجمة 7 أيار، ثم الملطّف في صلح الدوحة، بأنّ في مستطاعه قيادة تحالف للفوز بالأكثرية البرلمانية، و”إعادة تشكيل السلطة”. لكنّه لم يفلح بالديموقراطية الانتخابية في هذا النهج. في حين أنّ القوى التي انتزعت الأكثرية يومها لم يكن لديها رصيد قدرة وعزم على الاحتفاظ بهذه الأكثرية، التي سارعت إلى التفسّخ بسرعة قياسية.

إقرأ أيضاً: الجوع الإخضاعي: ستأكلون بالكاد.. وليس لكم حقّ آخر

يبقى أنّ ما حدث في حزيران 2009 كان مؤسّساً بامتياز: من جهة، فشل الحزب الأكبر في البلد، والمسلّح، في انتزاع السلطة بمعيّة تحالف يقوده ويكسب الانتخابات، وفشل التحالف المضادّ له في تحمّل نتائج فوزه، بل أضحى فوزه كابوساً له عمد بسرعة إلى التخفّف منه. إذ كيف يفوز وهو على الأرض مغلوب؟ ماذا يمكن أن يفعل مغلوب بفوز لا يطيح بالغلبة؟ 

كثير من الأمور تبدّلت من يومها، إلا أنّه في خلفية المشهد لا نزال هناك. وهذا معطى أساسي للكربجة: تَغَلُّبية “الحزب” تحدّ من قدرته على الظفر النهائي باللعبة الداخلية، وإحلال هيمنة مستقرّة ومديدة وممأسسة بدل حصول العكس، بل هي تغلُّبية تجعله يستنزف نفسه في متاهات التوفيق بين حلفائه، وبشكل عام، ارتفاع كلفة صيانة الأحلاف.

أما مَغْلوبية أخصامه، فتجعلهم لا يشعرون لا بالربح الانتخابي إن حقّقوه، ولا بالانكسار الانتخابي إن مُنوا به. وهذه كانت حال انتخابات 2018، بعد تسع سنوات من سابقتها، وطفرة تمديد برلماني ذاتي بذريعة البحث عن قانون صالح للانتخاب. تَغَلُبية الحزب أصبحت له هوية، ومَغْلوبية أخصامه أصبحت لهم أيضاً هوية. وكثيراً ما تشعر أنهم أحرص عليها كهوية، من أيّ تفكير ناجع يطرح بجدّية وتصميم لإعادة تعديل ميزان القوى. وما تأرجح “ربط النزاع”، واستحضار مشهدية “تأجيج النزاع” موسمياً، أو بالبهورة، سوى ارتضاء لهذه المَغْلوبية كهوية انطوائية يتعرّف فيها الـ 14 آذاري على وجهه، كهائم على وجهه؟!

في انتخابات 2018، لم يطرح “حزب الله” شعار ابتغاء انتزاع حلفه للأكثرية البرلمانية. لكن، وفيما كانت “القوات” سعيدة بمضاعفة عدد نوابها، و”المستقبل” يهوّن على نفسه بأنه لم يزل في السنّة أكثرية، ووليد جنبلاط يهنّئ نفسه بأنه خرج سالماً، بل معزّزاً من الموقعة الانتخابية في الجبل، كانت أكثرية المجلس قد أمست معقودة اللواء بالفعل لـ”حزب الله” وحلفائه، فيما الحزب مندفع قبل سواه لإنكار ذلك، والقول بأنّ الأمور لا تحتسب هكذا، والارتياب ممن يذيع في القوم أنّ حلف الممانعة ربح الانتخابات.

لكن “الكربجة” ليست مطلقة. الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لا يخرج بنتائج عبثية تماماً. حتى في لبنان وطوائفه، لكلّ استحقاق تداعياته الأساسية. استحقاق 2009 عنى شيئاً أساسياً: عدم استطاعة “حزب الله” الفوز بالسلطة الممأسسة بالطريق الانتخابي الديموقراطي. أن تكون له سلطته الموازية، أو المرجعية، أو فوق كلّ السلطات الممأسسة، فهذا شأن آخر. في المأسسة، كان يتطلّب الأمر فوز تحالفه العريض في الانتخابات، بناء لشعاره الانتخابي يومها، القاضي بـ “إعادة تكوين السلطة”. إذا دخلنا في وضعية أنّ الحزب يمكنه أن يفعل أشياء كثيرة باستثناء إعادة تكوين السلطة بالشكل الذي كان مأمولاً عشية هذا الاستحقاق.

لفهم ذلك، يمكن تخيّل السيناريو الآخر: لو أنّ الحزب فاز بانتخابات 2009 على رأس التحالف الذي قاده، والشعار المرفوع، ما كان ليبقى مجرّد شعار يومها. لو فاز الحزب وحلفه بالأكثرية البرلمانية في انتخابات 2009، لقام في لبنان بالفعل نظام حزب الله. لم يكن مقدّراً لـ14 اذار يومها، بنتيجة فوزها، أن تقيم نظام 14، بل أن تتحلّل نتيجة لفوزها هذا. لكنها، أقله، منعت السيناريو البديل. صحيح أنّ مجلس 2009 هو الذي سينتخب ميشال عون رئيساً في خريف 2016، بعد عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي. لكنّ ذلك كان ذروة “الكربجة” السياسية، وليس ذروة حسم الأمور في البلد لفريق على فريق، حتّى لو أنّ أحد الفريقين متغلّب، والثاني مغلوب. كانت التسوية تسوية بين متغلّب ومغلوب، لا تُخرج أيّاً منهما من سمته الصميمة والمزمنة هذه، لكنها لم تكن حسماً بأيّ شكل كان، لم تكن حسماً بوجه معادلات راسخة ومستدامة. أبداً. عنت هذه التسوية أيضاً استحالة الحسم.

في انتخابات 2018، لم يطرح “حزب الله” شعار ابتغاء انتزاع حلفه للأكثرية البرلمانية

بالمطلق، لا توازن بين مُتَغلّب ومَغْلوب. وبالمعاينة، لا فضاء سانحاً للمتغلّب أن يصير غالباً بشكل مستقر وممأسس وشامل. لا قدرة له على إحلال نموذج للهيمنة، وبخاصة أنّ الهيمنة تفترض التمكّن في فضاءات أوسع، من الأمن والسياسة، إلى حيث الاقتصاد وإلى حيث الثقافة. إذا كان من الممكن الكلام عن مارونية سياسية كنموذج هيمني في لبنان ما قبل الحرب، فليس هناك شيعية سياسية تقارن بها، ولا سنية سياسية، ولا مارونية سياسية محدثة. هذا، مع كون النموذج الأقرب لتحقّق هذه الهيمنة المارونية السياسية، هو النموذج الأقل شعبية في المارونية السياسية “الحركية” نفسها، أي في نموذج “الدولة الشهابية”. الهيمنة تفترض، بعكس التغلّبية، قدراً من سعة الأفق والسلاسة، من الطموح لتحويل المغلوب إلى “مُدمَج” في مشروع تبقى نواته مختلفة عنه. فقط، في مرحلة فؤاد شهاب كان ثمة اقتراب، نسبي، محدود، من ذلك.

بخلاف انتخابات 2009، لم تخُض انتخابات 2018 على أساس 8 و14، ولم يطرح فيها لا شعار إعادة تشكيل السلطة، ولا أيّ شعار. كانت انتخابات فراغية، وتجسد تفريغ السياسة منها في الإكثار من شعاراتية مكافحة الفساد. كلٌّ يغمز من خلال موشّحات “الأنتي فساد” من قناة غريمه أو حتّى حليفه. لكن، بالنتيجة، وبخاصة نتيجة للتفاوت الهيكلي بين مسار الانتخابات، بالإجماع الثنائي شيعياً، وبين مسارات الانتخابات التنافسية عند الطوائف والمناطق الأخرى، رست اللوحة الإجمالية على برلمان معقودة أكثريته عملياً لخطّ الممانعة، إنّما في ظروف أخرج فيها شعار “إعادة تشكيل السلطة” من التداول.

بالمطلق، لا توازن بين مُتَغلّب ومَغْلوب. وبالمعاينة، لا فضاء سانحاً للمتغلّب أن يصير غالباً بشكل مستقر وممأسس وشامل

اليوم، رؤساء الجمهورية والنواب والوزراء محسوبون، كلٌّ على طريقته، على هذا الخط. أحزاب 14 آذار مكربجة، والمجتمع المدني الذي استعاد من 14 شعاراتها ناقصةً زعاماتها زائدةً مكافحة الفساد، بدوره مكربج. لكن، في الوقت نفسه، الكربجة هي سمة كلّ من يتولّى الدولة. والكربجة أكثر توغلاً من الانهيار. الانهيار تتسارع معالمه، فيما الكربجة مستقرّة على حالها. لا المتغلّب قابل للهيمنة، ولا المغلوب قابل للإدماج. كربجة، إنما بكلفة عالية أكثر فأكثر، لكن أيضا ببذور انشقاق غير واضح المعالم بعد. يتوازى ذلك مع نموذج من الاقتصاد الفقاعي وصل إلى افلاسه المحتوم، حتى لو لم يكن البلد يعاني من مشكلة أخرى، فكيف إذا كان يعاني من كلّ المشكلات في الوقت نفسه؟

“اللاغالب واللامغلوب” ما عادت منذ وقت طويل وصفة مفيدة لتطبيب الكربجة. لأن الكربجة حاصلة بحكم التعايش المديد بين المتغلّب والمغلوب. بحكم اعتيادهما بعضهما البعض. بحكم الإدمان على التكرار. لكنّ تكرار مشاهدة القرص المقرصن، محكومة بتحلّل الألوان، وازدياد رداءة الصورة، وهذا ما يحصل، إلى أن يلفظ مشغّل الأسطوانات أنفاسه الأخيرة. التغلّب المزمن من دون قواعد هيمنة ممأسسة، والمغلوبية المزمنة التي، لطالما احتاجها المتغلّب، كواجهة خارجية له ووساطة. هذه أمور تقترب من خواتيمها الآن. بعد رحيل الوصاية السورية، لم يقم لا نظام 14 اذار ولا نظام حزب الله في البلاد، حتّى لو كان هذا مغلوباً، وذاك متغلّباً. ثم أتى من يستثمر في النوستالجيا لزمن ما قبل الطائف لإقامة “نظام ما قبل الطائف على رأس نظام الطائف”، أي “نظام العهد”، فكان أن سرّع هذا وتيرة الاحتكام، لأنّ “الأنتي – عهد” شكّلت حيوية أساسية في انتفاضة تشرين، غير أنّها لم تراكم في أعقاب استقالة الحكومة. بالنتيجة، تمكّنت هذه البلاد من استهلاك كلّ وهم مرتبط بإقامة نظام المتغلّب / حزب الله، ونظام المغلوب / 14 آذار، ونظام النوستالجيا / العهد، وكذلك نظام “المجتمع المدني” / الخيالي.

ثم؟

الثم لم يحن بعد وقتها. الكربجة لا تزال قادرة على الاستثمار في الانهيار، سواء في الداخل أو على امتداد المنطقة. 

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…