طائفة الدولة المقهورة


بعيداً عن ماهية الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية، بحق المفتي الشيخ بسام الطرّاس، أو الاستدعاء الموجّه للشيخ سالم الرافعي من الوجهة القانونية، فإنّ الشعور الذي أحسّ به السُنّة في لبنان أمام القرارين القضائيين، هو ترسيخ لمفهوم القهر الذي تعيشه هذه الطائفة الكبرى، التي كانت أقل الطوائف تورّطاً بدماء اللبنانيين، منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. ولا ضير أيضاً بالعودة إلى الوراء، وربما للعام 1860.

إقرأ أيضاً: بعد استدعاء الرافعي.. المؤبد على طرّاس: إنّها الفتنة

الطائفة المقهورة، لا شيء يشي حتى هذه اللحظة بإمكانية رفع هذا القهر عنها، أو على الأقل تخفيفه كبداية وانطلاقة لعلاجه. لا بل الملاحظ أن هناك إمعاناً بترسيخ هذا القهر وتطوير نسخته مع الأيام والأسابيع والأشهر، إن عبر مطوّر خارجي متمثّل بكلّ الشركاء المفترضين بالوطن، أو عبر مطوّر ذاتي متمثّل بالقيادات السياسية والروحية والمدنية داخل الطائفة السُنيّة.

في الشكل والتوقيت، فإن الحادثتين لم تكونا استهدافاً لشخص الرجلين بقدر ما كان الأمر استهدافاً للعمامة البيضاء التي يتوسّطها طربوش أحمر

لقد شكّل الحكم الغيابي بالسجن المؤبّد الصادر عن المحكمة العسكرية بحق مفتي راشيا السابق الشيخ بسام الطرّاس، وقبله استدعاء الشيخ سالم الرافعي من المحكمة نفسها، مؤشراً واضحاً مستفزّاً في سياق سياسة القهر وتطويره، إن من حيث الشكل أو المضمون. وفي الجهتين، تجاوزاً وانتهاكاً للقانون وأصول مساراته بعيداً عن الموقف من الشيخين الرافعي والطرّاس.

في الشكل والتوقيت، فإن الحادثتين لم تكونا استهدافاً لشخص الرجلين بقدر ما كان الأمر استهدافاً للعمامة البيضاء التي يتوسّطها طربوش أحمر. هي سلسلة متواصلة من مسلسل الترهيب الذي لم ولن يتوقف والذي بدأ عند جسر الرينغ في 6/6 وتواصل على كورنيش المزرعة في الليلة نفسها، وفي وسط بيروت في اليوم التالي وفي شارع المصارف بطرابلس بعد يومين، فالجريمة التي أودت بحياة شابين من عكار (الشقيقين محمد وأحمد عبد الكريم عقل) الأحد الفائت، وبالأمس الأول، حكم المؤبّد بحق المفتي بسام الطرّاس، مع وضع قضية ابنة عكار كيندا الخطيب بين قوسين حتّى يحين موعد الكلام عنها…!

هناك حالة إصرار على تهجير السُنّة من الوطن. هذا التهجير ليس بالضرورة أن يكون إلى خارج الحدود الجغرافية، بل هو تهجير لخارج الحدود القانونية. هو عملية نقل جماعي للسُنّة في لبنان من مظلّة الدولة إلى مظلّة الخارجين عن الدولة. هم يحاولون إقناع السُنّة، كلّ السُنّة، أنّ مقولة الدولة وسقفها، وأنّها الخيار والملاذ الوحيد، كانت نكتة سمجة، إن لم تكن نكتة عبثية..! وبالتالي شيطنة السُنّة تمهيداً وتبريراً للقضاء عليهم معنوياً وسياسياً حتّى الآن. ألم يحصل ذلك في سوريا عندما ثار الشعب على الطاغية؟! في الغوطة خرج السُنّة من المسجد بقيادة المسيحي جورج صبرا. وفي درعا، كان الضباط الدروز الأحرار في مقدّمة صفوف الثوار. أما النخبة العلوية، فما غابت يوماً عن صفوف المجلس الوطني أو المنصات، بتعدّد أسماء المدن والمراحل فيها (القاهرة، الرياض، موسكو). كلّ هذا لم يمنع من شيطنة السُنّة السوريين، وتالياً قتلهم وتهجيرهم. ألم يحصل ذلك في العراق أيضاً عندما ثارت الموصل ضد ظلم نوري المالكي وعصاباته وميليشياته المذهبية، فأدخلوا داعش مقدّمين لها السلاح والآليات (راجعوا التحقيق مع شركة تويوتا وصفقة ناقلات الجند التي أبرمها المالكي واستلمتها داعش). فتمّت شيطنة السُنّة العراقيين، وتالياً هُجّروا وقتلوا.

هناك حالة إصرار على تهجير السُنّة من الوطن. هذا التهجير ليس بالضرورة أن يكون إلى خارج الحدود الجغرافية، بل هو تهجير لخارج الحدود القانونية

في لبنان يحاولون استعادة التجربة، هم يحملون المطرقة ويواصلون ضرب سور السُنّة معتقدين أنّ هذا الضرب المتواصل على السور لا بدّ أن يفكّكه ويطرحه أرضاً. المعادلة ربما صحيحة والتجربة تستحقّ. لكن ما غفل عن الضاربين بالمطرقة، أنّ لبنان ليس سوريا ولا العراق. وفي ترابه لم يُدفن الحسين ولا معاوية ابن أبي سفيان. بل تحت ترابه شهداء كرياض الصلح، ورشيد كرامي، ورفيق الحريري، وحسن خالد، وصبحي الصالح، وأحمد عساف، وناظم القادري، ووليد عيدو، ووسام الحسن ومحمد شطح، وغيرهم. وكلهم كانوا بربطات العنق وبدلاتهم الرسمية عندما استشهدوا وليس بثياب القتال.

القتال عند سُنة لبنان ليس ثياباً عسكرياً مرقطة ولا كمية من الصواريخ ولا حتى عبوات ناسفة ومسدسات كاتمة للصوت. القتال عند السُنّة موقف صامد صلب، وإيمان راسخ لا يتزعزع بفكرة الدولة ومؤسساتها. قد تمرض الطائفة السُنيّة، وقد تشيخ، وقد تهون عليها الأيام أحياناً لكنها لا تموت أبداً، هي قادرة على تجديد جلدها. هي ككاتب التاريخ يضع قلمه طلباً للراحة. لكنه يعاود الكتابة حتّى آخر الزمان.

في لبنان السُنّة مرادفون لوجود الدولة، أي لوجود لبنان. قبلهم كان هناك جبل، ولم يكن دولة لبنان. وعندما نُصِبَتْ دولةُ لبنان الكبير، ما كانت لتكون لولا الاتفاق مع السُنّة على تشييد هذا البنيان.

القتال عند سُنة لبنان ليس ثياباً عسكرياً مرقطة ولا كمية من الصواريخ ولا حتى عبوات ناسفة ومسدسات كاتمة للصوت

حذارِ شيطنة السُنّة لأنها ستكون شيطنة لكلّ لبنان. ستكون بداية النهاية لدولة لا يمكنها العودة لأحلام الانعزال في جبل، ولا لدولة الطوائف والاعتراض والتنازع. الدولة الحقيقية مرادفة للسُنّة. أبى من أبى وشاء من شاء.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…