فوطة صحية داخل كيس أسود في “دكان” مفلس!


كان الأمر مربكاً. وكنت أتفادى بأيّ طريقة أن يقع اختيار أمي عليّ، دوناً عن أخي الأصغر، لترسلني إلى دكان أبو علي لشرائها.

وإلى الإرباك الذي يترتّب على الموقف، كانت أمي تزيد الطين بلّة، فتطلب إليّ ان لا اشتريها إلا اذا كانت أم علي في الدكان: “قول لأم علي وهي تعرف ماذا تعطيك”. وكنت اذا ما هممتُ بفتح فمي، تعرف أم علي طلبي من ارتباكي البادي على وجهي، فتبتسم وتذهب إلى الجهة الخلفية من “الميني ماركت” التي كانت أسفل بنايتنا، وتستلّ علبة الفوط الصحية وتضعها في كيس أسود وتعطيني إياها فأركض بها إلى المنزل والعرق يتصبّب من تحت إبطيّ. أما اذا كان أبو علي وحده في الدكان، فتلك كانت المعضلة الكبرى. أقف حائراً أفتّش على أم علي، وهو يسألني: “شو بتريد يا عمّو”. وحينما ينربط لساني، أركض خارج الدكان وأرجع إلى البيت مجرجراً خلفي الخيبة والخجل.

إقرأ أيضاً: عنف.. تعذيب وذبح في أغاني الأطفال!

أحدس أن رجالاً كثيرين لا يزالون يعانون من ارتباك مماثل حتى أيامنا هذه، ولا يوفّر هذا الإرباك نسبة كبيرة من النساء، بسبب التربية والثقافة الذكورية على الغالب، وبسبب التعوّذ من العادة الشهرية بوصفها نجاسة و”شرّاً” كما تصوّرها بعض الأساطير الدينية.

هل تعلمون أن الفوط الصحية أيضاً لم تعد حكراً على النساء؟ هناك فوط صحية مخصّصة للرجال وموجودة في السوق

لا أعرف كيف كانت علاقة الرجال السبعة الذين ناقشوا سلّة السلع المدعومة في السرايا الحكومية مع الفوط الصحية في طفولاتهم. لا أعرف هل كان رئيس الحكومة حسان دياب (ومعه مستشاروه) يرتبك إذا أرسلته أمه إلى الدكان لشراء الفوط الصحية؟ هل اشترى الوزراء راوول نعمة وعباس مرتضى وعماد حب الله يوماً الفوط الصحية لأمهاتهم أو لأخواتهم أو لزوجاتهم؟ وكم كان سعر الفوط الصحية عندما كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طفلاً؟ هل كان يفكر بالسعر أكثر من الإرباك المتعلّق بهذه السلعة “النسائية”؟ ولماذا لم يلتفت أحد من الرجال السبعة إلى دعم هذه السلعة في وقت جرى الانتباه إلى سلع “رجالية” كشفرات الحلاقة؟

سيقول قائل إن الشفرات ليست حكراً على الرجال، وأن نساء كثيرات يستخدمن شفرات الحلاقة لإزالة الشعر عن أجسادهن. ولكن هل تعلمون أن الفوط الصحية أيضاً لم تعد حكراً على النساء؟ هناك فوط صحية مخصّصة للرجال وموجودة في السوق، ويمكنكم العثور عليها “اونلاين” مع هذا الشرح: “مصمّمة خصيصًا للرجال بقدرة امتصاص تتراوح من الخفيفة إلى الفائقة، وتتناسب بشكل آمن وسري في اللباس الداخلي للرجال”. الفوط الصحية ليست حصرية بالنساء إذاً، وإن كانت تدخل في عالم الرجال من باب الكماليات وليس الضروريات، والشائع الأعمّ هو ربطها بالعادة الشهرية النسائية، وهذا الربط يدعّم بما لا يدع مجالاً للنقاش، الحاجة الضرورية إليها من السواد الأعظم من النساء بشكل شهري ولفترة تمتد إلى أيام، وباستهلاك يختلف بين امرأة وأخرى بحسب التركيبة البيولوجية والهورمونية لكلّ امرأة.

بعد سقوطها من السلة، حطّت الفوطة الصحية على مواقع التواصل الإجتماعي، مادة دسمة للسخرية والنقاش، الصحي طبعاً

مع ذلك، لم ينتبه الرجال السبعة إلى هذا التفصيل المهمّ. هل يربكهم الموضوع كما كان يربكني وأنا طفل؟ هل يخجلهم الحديث عن السلعة التي بقيت إلى وقت طويل توضع بأكياس سود لسترها، كما لو كانت ذنباً أو عيباً، عن العيون؟ أم أنهم، تذكروا السلعة وناقشوا أهميتها، ووجدوا نزولاً عند ذكوريتهم أنها لا تستحق الدعم، فأسقطوها من السلة؟

بعد سقوطها من السلة، حطّت الفوطة الصحية على مواقع التواصل الإجتماعي، مادة دسمة للسخرية والنقاش، الصحي طبعاً، حول بديهيات قيل إنه كان يمكن تفادي الغوص فيها، لو فكّر الرجال السبعة بأن يحضروا معهم ولو وزيرة من الحكومة، ولو مستشارة لرئاسة الحكومة، لنقاش هذه السلة المدعومة وإقرارها، بدل أن يجتمعوا بكلّ ما يحمله وجودهم معاً من ذكورية وسوء تدبير وإرباك، لتقرير مصائر اللبنانيات واللبنانيين.

يعتقد هؤلاء أن “أبو علي” لا يجب أن يُترك مع رفاقه الذكور، في أوضاع غير صحيّة كهذه، وحدهم في “دكان” مجلس الوزراء مع أكياس سود. وجود “أم علي” كان ليكون مفيداً، يقولون. لكن الدكان مفلس، وإدارته الـunisex مفلسة، ولا حلّ لتفادي إقفال الدكان إلا باستبدال هذه الإدارة الفاشلة بإدارة جديدة، مع أكياس بيضاء شفافة.

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…