علي الهقّ: انتحار “المواطن العادي” الأخير!


في مسرحيته “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، يعلن زياد الرحباني عن شبه انقراض لما يسميه “المواطن العادي” في لبنان، الذي تستحضره الدولة ليلعب دوره في “مسرحياتها” أمام وسائل الإعلام الأجنبية، عن استتباب الأمن والوفاق.

هذا “المواطن العادي” الأخير، هو المواطن الذي لا يزال عملياً سجلّه العدلي نظيفاً لا تشوبه شائبة، مواطن يدفع الضرائب، يلتزم بالقوانين ويعيش بكلّ انضباط وسط غابة من الفوضى. والدولة تحافظ عليه كمواطن مهدّد بالانقراض، وتضعه في قفصها لاستخدامه في عروض السيرك التي تقدّمها للمجتمع الدولي.

إقرأ أيضاً: أولاد الهرمل وصيدا وصور: هزموا إسرائيل.. وانتحروا بأسلحتهم

الرحباني في مؤتمر صحافي بعد عرض المسرحية (1993) قال إنّ حضور مواطن عادي واحد وأخير في المسرحية، قد يعني ربما وجود ما يقارب ألف مواطن عادي في لبنان، وأنّ العدد لو كان أكبر من ذلك، “كانوا بيخربوا الدني لانو ما بينعاش هيك”. ما قصده الرحباني أنّ غالبية اللبنانيين يتأقلمون مع “السيستم” ليستطيعوا العيش، فيدخلون في منظومة المحسوبيات والتحايل على القانون والفساد، بطريقة أو بأخرى، للاستمرار.

“المواطن العادي” هو الوحيد الذي لا قدرة له حتى على مجاراة باقي المواطنين “غير العاديين” في نمط حياتهم وفي قدرتهم على التأقلم مع السيستم.

“المواطن العادي” هو الوحيد الذي لا قدرة له حتى على مجاراة باقي المواطنين “غير العاديين” في نمط حياتهم وفي قدرتهم على التأقلم مع السيستم

“ما بينعاش” يقولها الرحباني، كما لو يعني أنّ “المواطن العادي” إما أن يتأقلم مع السيستم ويفقد عاديته الاستثنائية، وإما أن ينتحر، أو يُقتل.

السيستم سيقتله في النهاية أو سيدفعه إلى الانتحار.

علي الهقّ هو هذا “المواطن العادي” الذي تحدث عنه زياد الرحباني. مواطن عادي بسجل عدلي نظيف تماماً، مع صورة شمسية ببدلة رسمية أنيقة وكرافات وعلم لبناني وشعار “لبنان حرّ ومستقل” الذي أعلنه قبل أن يطلق الرصاصة الأخيرة على رأسه.

في اختياره لمسرح انتحاره ورسالته المأخوذة من أغنية لزياد الرحباني، وسجله العدلي الذي شهره نظيفاً كمسدس بلا ذخيرة في وجه الجميع، كأنّما يعلن علي عن هويته: أنا المواطن العادي الأخير. أنا الذي تحدّث عني زياد الرحباني في مسرحيته، وأنا من الذين كنتم تحضروننا، كما في المسرحية، لنشهد استتباب الأمن والنظام والوفاق حينما تمعن الدولة في ارتكاب جرائمها بحقّ “المواطن غير العادي”. كما هي الحال مع إطلاق الضابط (زياد الرحباني) في المسرحية النار على “خيّ الشهيد” (مواطن استثنائي جداً) لأنّه يرفض الخروج من “الكادر”.

طوال السنوات الماضية كان “المواطن العادي” تستقدمه الدولة لتُشهده بالقوة، زوراً، على انتظامها واستتبابها و”عدالتها”، وعلى كذبة “الوفاق”.

“المواطن العادي” تستقدمه الدولة لتُشهده بالقوة، زوراً، على انتظامها واستتبابها وعدالتها

علي الهقّ انتبه إلى هذه الوظيفة المسندة بالقوة إليه، وهو الذي لا يريد سوى العيش في دولة حقيقية وعادلة. ولما لم يجد هذه الدولة، قرّر العيش كمواطن صالح ونظيف ورفض الانغماس في حفلة الفوضى التي يتواطؤ عليها مواطنون غير عاديين مع دولتهم غير العادية.

لذا، عندما انهار كل شيء، وأصبحت عبارة “ما بينعاش” حقيقية وغير مسرحية، وتصيب في حرفيتها واقع “المواطن العادي”، ولكسر كل هذا، قرر “المواطن العادي” الأخير علي الهقّ أن ينتحر، ولم تعثر الدولة على اي مواطن عادي آخر لتسحبه بالقوّة وتضعه أمام عدسات الكاميرات ليقول إنّ القتيل المضرّج بدمه ذهب ضحية استتباب الامن والوفاق.

كلّ ما فعلته الدولة كان إرسالها سيارة إسعاف من وزارة الصحة مع تابوت أبيض تماماً (منذ متى تحمل سيارات الإسعاف توابيت خشبية بيضاء؟) وكأنما هذا التابوت الأبيض الناصع كان مجهزاً سلفاً للنهاية الشجاعة للمواطن العادي الأخير!

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…