نقداً لـ”تعويذتي” مكافحة الفساد ونزع السلاح


“الفساد! الفساد!”، إذاً، ماذا؟

“السلاح! السلاح!”، طيب، وكيف ذلك؟

شعاران يتازعان، يتجاذبان، يتمازجان، يتفاضلان، بلا كلل. إنما في نهاية الأمر مع شيء من الضجر، منذ 17 تشرين إلى اليوم، وحتى قبله.

إقرأ أيضاً: “السلاح” حين لا ينفع الاختزال ولا الإرجاء ولا المكابرة

الشعار الأول عمره أزيد من ربع قرن في لبنان. تسلّمت “مكافحة الفساد” مقاليد الأمور مع تبوّؤ الجنرال إميل لحود سدّة الرئاسة في خريف 1998، بخطاب قسم من عيار “فلتقطع يد السارق”. تحوّلت وقتها إلى عقيدة رسمية، برأي عام مرحّب في البداية. جُرّبت في سلسلة ملاحقات قضائية استنسابية مبتورة لم تدم طويلاً، وفترت شعبيتها سريعاً، وجاءت نتائج انتخابات 2000 مبطلة لها، قبل أن ندخل في لجة التعايش المرير بين الرئيسين لحود والحريري، ومكابدات “غسيل القلوب”. إلى أن حلّت محنة التمديد، وما بعدها. حتى إذا انقسمت البلاد بعد القرار 1559 وإتمام التمديد القسري، واغتيال الرئيس الحريري، وانفرزت ساحتان في آذار 2005، كانت مكافحة الفساد مسحوبة تماماً من التداول، ليس حولها مدار الخلاف، إلى أن أسفرت عودة العماد ميشال عون من منفاه عن إعادة التقاطها. وصار لها بعد 2005، في السياسة، مدلول خطابي عوني اكثر من أيّ مدلول آخر. ووجدت بيانها في كرّاس “الإبراء المستحيل”، وهو نفسه كتاب “الأيادي السود” (لكاتبه نجاح واكيم)، من بعد إعادة ترجمته إلى اللغة البرتقالية، في المرحلة التي صار واجباً فيها على العونية أن تصطفي لها غير “الكتاب البرتقالي” هوية سياسية؟

لا تكاد تمرّ دقائق قليلة على أيّ أزمة مساكنة أو هجر بين جبران باسيل وسعد الحريري حتى يُجري إحياء مفردات “الإبراء المستحيل” من جديد، بعد أشهر من “الإطراء المستفيض”، وتزامناً مع إعادة تسميته بـ”سعد الدين” كما لو كان في الموضوع كشف ما

من يذكره هذا الكتاب البرتقالي لعام 2005 وما نصّ عليه من “شرق أوسط جديد”، وأنه “لا يمكن للبنان إلا أن يقاوم ثقافة الموت” و”تجريد كافة الميليشيات من سلاحها، ما يطرح إشكالية الوجود المسلح لحزب الله”، ودعوة للتقييد بمندرجات القرار 1559 بحذافيره؟ عندما انقلبت المواقع والتوازنات، انتقلت العونية من موضوع “السلاح” إلى مكافحة الفساد، علما أن التطبّع الكامل للعونية مع السلاح لم يكن في تفاهم مار مخايل، ولا مع بداية حرب تموز، إنما في النصف التالي من هذه الحرب.

إذا مرّت مكافحة الفساد بفترة لحودية ثم بفترة عونية، إلى أن أخذت الدلالة تتبدّل شيئاً فشيئاً كلما اقتربنا من لحظة 2015، وظهور شعار “كلن يعني كلن”. حينها دخلت مكافحة الفساد طورها الثالث في تاريخ الجمهورية الثانية، منظوراً لها كشعار تعبوي، وطُوّر فيه كمّ من الاحتقان غير قليل تجاه العونية – الباسيلية، جنباً إلى جنب مع الاحتقان من الحريرية ومن تيار رئيس المجلس. مع هذا، ظلّ شعار “كلن يعني كلن” يُطرح بتضمينات مختلفة، بتراتبيات مختلفة. وبعد 2016، ارتبط نزر غير قليل من هذا الشعار مع السلبية تجاه “عهد” الرئيس عون ورموز هذا العهد بدءاً من صهره رئيس التيار العوني. وفي نفس الوقت، لم يسلّم هذا التيار بأن شعار “مكافحة الفساد” سُلِبَ منه، فعاود استعماله عشية الانتخابات النيابية، للقنص على رئيس المجلس، ولا تكاد تمرّ دقائق قليلة على أيّ أزمة مساكنة أو هجر بين جبران باسيل وسعد الحريري حتى يُجري إحياء مفردات “الإبراء المستحيل” من جديد، بعد أشهر من “الإطراء المستفيض”، وتزامناً مع إعادة تسميته بـ”سعد الدين” كما لو كان في الموضوع كشف ما. بعد 17 تشرين، سنجد شعار مكافحة الفساد ينقسم على ذاته مرة جديدة. فمن جهة، مكافحة فساد مجموعات المجتمع المدني، بعضها من خلفية 8 آذارية، وبعضها 14 آذارية، وبعضها أضاع خلفيته. ومن جهة ثانية، حكومة تكنوقراط كان يمنّي سعد الحريري النفس بأن يتراسها، فحصل أن ترأسها محسوب على خط الممانعة، آتٍ من رئاسة الجامعة الأميركية، تكنوقراطي محض، ونيوليبرالي محض. وهكذا، راح حسان دياب يبتدع نسخته هو من مكافحة الفساد. أما مكافحة الفساد، طبعة المجتمع المدني، فانتقلت للمطالبة بحكومة مستقلين بصلاحيات تشريعية استثنائية، وهو شعار مغاير تماماً لألفباء الفصل بين السلطات. في الفصل بين السلطات، الحكومة سلطة تنفيذية والبرلمان وحده يشرّع، ومع هذا الشعار يجري التأمل في قيام حكومة عجائبية، تحكم وتشرّع وتقضي، تنال الثقة من البرلمان إياه، ولا نعرف إذا كان يقبل الناشطون أن تخضع لمراقبته.

تجريدان إذاً. “الفساد” و”السلاح”. وتفاصيل، وقال وقيل، على هامش التجريدين. هذا في وقت تبرز فيه الحاجة اليوم أكثر إلى الملموس. الفكر الملموس، والعمل الملموس. والملموسية تكون كذلك إذا أدركت شروطها، وحدودها، وسمة كلّ لحظة

في أثينا العصر القديم، كان هناك هيكلية متوازية بين سلطة تشريعية تنفيذية في وقت واحد، وبين سلطة قضائية يختارها المواطنون من بينهم، وكانت هذه “المحكمة الشعبية” قلما تتعاطى قضايا الحق الخاص، التي كانت آليات التحكيم بين الناس تفضّها وتسوّيها، بل كانت تتعاطى قضايا الحق العام، وتحاكم المفسدين ومن يسيئون للمصالح العامة. شبح هكذا محكمة قد يحضر كلما جرى الكلام عن فساد واسع النطاق كما في لبنان، لكن أقلّ ما يقال أيضاً إن شعار “الحكومة التشريعية المستقلة” أبعد ما يكون عن تأمين شروطها.

هكذا نصل أنه في الموجة الثالثة أو الرابعة من تاريخ معزوفة مكافحة الفساد في لبنان لا يزال هذا الشعار هائماً على وجهه، او شعار الهائمين على وجوههم بامتياز. إذا كنتم تريدون محاكمة فعّالة وقاصمة لظهر من تروهم كبار المفسدين، فإن شعار محكمة شعبية يختارها المواطنون على الطريقة الإغريقية أكثر واقعية وحقية من شعار الكانتاكي، عن حكومة مستقلين بصلاحيات تشريعية.

لكن البلد يعيش فترة من الاجتماع الفظّ بين أقصى التجريد في الشعارات وبين أقصى التيه في التفاصيل. نتيجة ذلك تعطّل آليات التفكير، التنظيم، التسييس. نفس الشيء في موضوع السلاح. رغم كلّ شيء، عندما كانت 14 آذار الرسمية تطرح الموضوع كانت تطرحه مؤطّراً، في استراتيجية دفاعية، في قرار الحرب والسلم، إلخ. أما اليوم، فهناك اتجاه يطرح موضوع السلاح كما لو كان تعويذة، أي باختصار لم يعد يعرف على من تقرأ المزامير، على من يطرح الموضوع؟ مطالبة حكومة حسان دياب مثلاً بأن تنزع السلاح؟ المطالبة بحكومة جديدة قادمة خصّيصاً لانجاز هكذا هدف؟ مطالبة المجتمع الدولي بالتدخل لأجل هذا؟

تجريدان إذاً. “الفساد” و”السلاح”. وتفاصيل، وقال وقيل، على هامش التجريدين. هذا في وقت تبرز فيه الحاجة اليوم أكثر إلى الملموس. الفكر الملموس، والعمل الملموس. والملموسية تكون كذلك إذا أدركت شروطها، وحدودها، وسمة كلّ لحظة.

إقرأ أيضاً

الفضيحة الشاملة: قصة هجوم لم يقع

كان الهجوم الإيراني على إسرائيل وهماً من الوهم المستمرّ منذ أربعين عاماً وأكثر من العداوة بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. وقد تبيّن أنّ المقصود من…

إمبراطورية إيران “العاقلة”… ونحنُ شعوب الدرجة الثانية المنذورين لحروبها

ردّت إيران على إسرائيل لأنّها قصفت قنصليّتها في سوريا. ردّت بـ”عقل” و”حكمة”. ردّت بتنسيق مع الرئيس الأميركي جو بايدن. لحماية “مصالح إيران”. وقال قادتها إنّهم…

الليلة التي أربكت استاتيكو الشّرق الأوسط

تأخّر الردّ الإيراني على إسرائيل عقوداً لا أيّاماً. امتلكت طهران كلّ الأسباب الشرعية والمنطقية للردّ المباشر حين نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي…

من يدفع ثمن الأزمة في باكستان؟

أُدين رئيس حكومة باكستان السابق عمران خان بالفساد وتعريض الأمن القومي للخطر والإساءة للدين الإسلامي، وحُكم عليه بالسجن لمدّة 31 عاماً. وهو اليوم يقضي هذه…