لن نقبل بارتهاننا وارتهان طرابلس من جديد!


عندما دعوتُ عقلاء المسلمين إلى العناية بطرابلس وجمهورها، ما كنتُ أقصِدُ الاهتمام باحتياجات المدينة فقط، واحتياجات فقرائها ومعذَّبيها ومعتقليها؛ بل كنتُ أنبّه إلى إمكان تكرار فيلم ارتهان طرابلس وارتهاننا معها، وهو الأمر الذي درج النظامان اللبناني والسوري عليه، وتكرّر منذ سبعينات القرن الماضي وإلى العام 2015. ما كانت طرابلس أبداً ومنذ الاستقلال جزءًا ناجزاً من النظام اللبناني. وما كان ذلك بسبب عروبتها المتطرفة كما تقول الأسطورة. فقد انكمشت عروبتها منذ وصول البعثيين للسلطة بسورية عام 1963. لكنها وهي تعيد التطلّع للداخل ما كانت تقبل نظام المحاصصة الطائفي، الذي اعتبرت نفسها مغبونةً فيه على الدوام. ما قبل الطربلسيون أن يكونوا أقلّ من مواطنين، وما قبل النظام اللبناني أن يعتبرهم كذلك. ولأنها كانت دائماً عصيةً على التطويع والخداع، فقد كان المقصود دائماً إثارة الغليان بداخلها لكي تنشغل بنفسها، وإعداد العدّة دائماً لإفساد ثورانها بالعنف الذي بدا دائماً أنّ عُصاة جمهورها هم الذين يقومون به، وأنّ الجيش والقوى الأمنية الأُخرى والأحزاب “الوطنية” هؤلاء جميعاً ضحاياها! وما صمدت أُسطورة استعصائها العربي، لأنّه ما بقيت عروبة غير عروبة البعث السوري، أما الطرابلسيون الذين يتضامنون مع عرفات فهم بالتأكيد عملاء الكيان الصهيوني!

إقرأ أيضاً: قوى السلطة تستبعد “المستقبل”: عفوٌ عام لا يشمل الإسلاميين

الشعار الذي صمد عنواناً للمدينة المظلومة هو التطرف الإسلامي الذي سُرعان ما صار إرهاباً. ومنذ أواسط تسعينات القرن الماضي صار الارتهان مزدوجاً: طرابلس رهينة عنفها الداخلي العبثي المدمِّر، ورفيق الحريري وزعماء طرابلس هم رهائن النظام السوري والنظام اللبناني بسبب طرابلس. لقد كان عليهم بعد كلّ جريمةٍ تُرتكبُ بحقّ المدينة أن يدينوا المقتولين من أبنائها، وأن يمتدحوا بالجيش والأجهزة الأمنية التي ارتكبت الجريمة أو الجرائم. فحتّى البيان الأخير لرؤساء الحكومات السابقين الأربعة قبل أيام، والذي جاء بعد صدامات بين الجيش والمتظاهرين بطرابلس، سقط بنتيجتها قتيل وعشرات الجرحى، أثنى على الجيش وأشاد به وما أدان حوادث القتل والإصابة!
وقد شاعت منذ ثلاثة عقودٍ وأكثر شائعاتٌ صارت مسلّمات: أنّ طرابلس غاصة بأحياء البؤس، وأنّ هذه هي مشكلتها. إنّما الطريف والغريب أنّ مشروعات التطوير الضخمة في سائر أنحاء لبنان كانت تجد طريقها للتنفيذ إلاّ في طرابلس وعكار حتى لو كان رئيس الوزراء من أبناء المدينة. حدث ذلك عندما كان عمر كرامي الطرابلسي رئيساً للوزراء، وعندما كان نجيب ميقاتي الطرابلسي رئيساً للوزراء. في العام 2011 كان في حكومة ميقاتي ستة وزراء من طرابلس، ومع ذلك ما توقف الاضطراب بداخل المدينة، ولا بين المدينة وجوارها العلوي. فلا المشكلة الاجتماعية وجدت حلاًّ، ولا المشكلة الأمنية وجدت حلاً على مدى الثلاثين عاماً الماضية وأكثر.
لقد جلبت السنوات العشرون الأخيرة على طرابلس، بالإضافة إلى تخليد البؤس فيها، الاتهام بأنّها حاضنةٌ للإرهاب، ودخل بنتيجة ذلك ألوفٌ من شبّانها إلى المعتقلات والسجون وما يزالون. لقد كان الشباب عام 2011 متذمّرين وهائجين بسبب الحرب على الشعب السوري وعلى مدينتهم، وذهاب حزب الله للقتال في سورية رغم زعم النأي بالنفس. ولذلك تبارت مخابرات الجيش والأمن العام وأمن الدولة وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي في القمع والقبض والملاحقات والقتل بزعم إخماد التمرّد الأصولي وللإخضاع للقانون. وما قصّر الشباب المستثارون في الردّ على العنف، على ضعف القدرات وتفاوتها بالطبع، وأنّ “البادي أظلَم”. وما استطاع زعماء طرابلس، ولا رؤساء الحكومة السنّة، التدخل بأي شكلٍ لا للتوسّط ولا للتلطيف ولا للتخفيف ولا حتّى لتسريع محاكمات المقبوض عليهم أمام المحكمة العسكرية. لقد كان ارتهاناً قاسياً للمدينة، وارتهاناً للمسلمين جميعاً تحت عنوان الإرهاب، وهو الارتهان الذي امتدّ إلى البقاع وعرسال ومجدل عنجر..و صيدا، وما أدراك ماذا حدث لصيدا وما يزال يحدث!
منذ قرابة الأربعين عاماً ما شعرت طرابلس بالحرية إلاّ خلال الانتفاضة الشعبية اللبنانية التي بدأت في 17 تشرين الأول عام 2019. لقد خرجت المدينة عن بكرة أبيها إلى شوارعها بأهازيج الحرية والتحرّر والانعتاق وأغاني ومهرجانات الفرح، وبدون ضربة كفّ. وقد صار ذلك ممكناً لأنّ الانتفاضة كانت شاملةً لسائر أنحاء لبنان، ولأنّ المسيحيين الشباب كان لهم دورٌ بارزٌ فيها. ما عاد بوسع زبانية الأجهزة رمي التجمّع الضخم بالتطرّف والإرهاب. وقد أحرج الشبّان الجيش والقوى الأمنية بكثرة العناق والاحتفال المستمرّ بوجودهم الكريم والرائع. وحتى عندما كان الجنود يضربونهم بداخل المدينة وعلى طريق المنية لأنّهم يسدّون الطريق، كان المضروبون يصرّون على الهتاف للجيش وتحيته!

كما يتظاهر شبّاننا بسبب سرقة الطبقة السياسية لأموالهم ومعيشتهم، ينبغي أن يكون ممكناً التظاهر لتحرير أبنائنا من سجون المحكمة العسكرية

لقد انتهى مهرجان الفرح في طرابلس ولبنان كلّه بالانهيار الاقتصادي وإقفال البنوك وحجز مدّخرات المودعين فيها، ثم اندلاع وباء كورونا. ولأنّ سائر الرسميين ورئيس الحكومة (وقد نسيتُ اسمه أثناء كتابة المقال لشدّة أهميته!) وكلّ الناعقين على التلفزيون برؤوسٍ وبدون رؤوس هؤلاء جميعاً أرادوا “التبرّؤ من دم يوسف”، فوضعوا تهمة الانهيار على عاتق المصارف والمودعين الذين قالوا إنّهم هرَّبوا أموالهم للخارج. أما السياسيون السَرَقة والذين ما يزالون مسيطرين على الحكومة وخطتها الاقتصادية الإنقاذية العظيمة، فقد دأبوا منذ أسابيع على إرسال أناس من محازبيهم للتظاهر أمام البنك المركزي وجمعية المصارف. وعمدت الأجهزة، التي تدربت على قمع الطرابلسيين منذ عقود، على إرسال شبانٍ منهم ببرطيلٍ أو باستهواء لتدمير المصارف بطرابلس. وبصيدا أيضاً! وهكذا حصلت اشتباكاتٌ وسقط جرحى وقتيل، ودُمّرت فروع عدّة بنوكٍ بطرابلس… وصيدا، أو أُحرقت، مع إحداث تلفيات في بعض مصارف بيروت!
الذين يدمّرون ببيروت وصيدا ليسوا من جمهورنا، وهم محميون ومرسلون لهذا الغرض. أما الذين يدمّرون بطرابلس فهم مستخدمون من الجهات الأمنية. وفي حين لا يُقبضُ أبداً على المخرِّبين من غير الجمهور السني، فإنّ مخربينا يُقبضُ عليهم ثم يُطلق سراحُهم بعد عدّة أيام! ذلك أن القابضين والمقبوض عليهم يشتغلون عند جهةٍ واحدة.
إنّ الذي أُريد الذهاب إليه أو الانتهاء به أنّ جمهورنا وبخاصةٍ في طرابلس والبقاع وصيدا هو بدون قيادةٍ أو توجيه. وما كان ذلك ليزعجني لو كان الحراك الشعبي ما يزال في أَوجه، وشبّان السنّة جزءٌ منه. الحراك تكأكأ، وتحتال السلطة بكورونا وحجوزاته حتّى لا يعود الناس للشارع. وفي هذه الفترة العصيبة بين حقبتين، ينفلتُ جزءٌ من شبّاننا في الشارع، وتستغلّ الأجهزة أشدّهم فقراً وحاجةً. ولذلك وجهتُ نداءً إلى عقلاء المسلمين للقيام بأمرين: النزول إلى الشارع مع الشبان واحتياجاتهم. وقد حصل ذلك لكنه ما يزال غير كافٍ. والأمر الثاني والأهم: توجيه إنذار وليس مدائح لمخابرات الجيش والأمن العام والمعلومات وأمن الدولة وكلّ الموجودين في شوارع طرابلس وصيدا والبقاع من عناصر الأجهزة بأنّ التعامل سيتغيّر تجاه من يمارسون لعبة العنف مع الجمهور وسواء أكان من العناصر الرسمية أو شبه الرسمية ممن يسمَّون: سرايا المقاومة!
طرابلس لن تعود رهينة، وكذلك صيدا وعرسال.. الخ. وقبل ذلك وبعده إنّه عارٌ وشنارٌ أن يستمرّ الابتزاز بملفّ المسجونين الإسلاميين. وسيقال لنا إنّها مشكلة صغيرة وسلوك مذهبي. وهي في نظرنا ليست مشكلةً صغيرة، و95 % من هؤلاء ما مارس عملاً عسكرياً مباشراً، ولكنّها مشكلةٌ اختُرعت للإرعاب بالإرهاب، وعارٌ على سياسيي المسلمين وعسكرييهم أن يعجزوا عن الخروج منها!
إنّ المسجونين باسم الإسلام هم نقطةٌ سوداء في حريتنا وكرامتنا ووطنيتنا وديننا. وكما يتظاهر شبّاننا بسبب سرقة الطبقة السياسية لأموالهم ومعيشتهم، ينبغي أن يكون ممكناً التظاهر لتحرير أبنائنا من سجون المحكمة العسكرية!

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…