نقولا سركيس: حصّة لبنان من نفطه الأقلّ عالمياً.. وللخروج من بؤرة فساد جديدة

 

مؤخّراً بدأت احتفالات غير مبرّرة حين بدأ لبنان بحفر أول بئر للتنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية، وبالتحديد في البلوك رقم 4، قبالة شمال غرب العاصمة بيروت. هذا بعدما وقّعت الحكومة، وللمرّة الأولى في العام 2018، عقوداً مع ثلاث شركات، “توتال الفرنسية”، “وايني الايطالية”، “ونوفاتيك الروسية”.

لكن ثمّة عقبات ونقاط استفهام عدّة تحيط بهذا الملف.

الدكتور نقولا سركيس يعتبر أنّ التدهور الكبير لأسعار النفط العالمية سيكون له تداعيات متناقضة على المديين القريب والبعيد. في المستقبل المنظور، ستكون هذه التداعيات إيجابية لأنّ لبنان يستورد كامل حاجاته من البترول لتغطية استهلاك داخلي يناهز 136,000 برميل يومياً، كانت قيمتها تتراوح قبل الأزمة الجديدة حوالى 5.1 مليار دولار سنوياً. ما يعني أنّ الهبوط الحاد في الأسعار العالمية سيترجم بوفر قد يتجاوز 2.4 مليار دولار في السنة، في قيمة مستورداته النفطية، على أساس الأسعار العالمية الراهنة. هذا طبعاً يشترط تأمين الشفافية والمنافسة، وألّا تمتدّ أيادي بعض المستوردين، والوسطاء، كي تسلب لمصلحتها قسماً من تدنّي الأسعار، على حساب المستهلك.

إقرأ أيضاً: الكورونا يخفّض أسعار النفط

أمّا على المدى البعيد، فالوضع يختلف تماماً، بحسب سركيس. إذ إن اشتداد المنافسة بين الدول المصدّرة، وما قاد إليه من هبوط في الأسعار، هما عاملان لا يشجّعان الشركات البترولية على التجاوب مع رغبة لبنان في اجتذاب رساميل أجنبية، للتنقيب عن البترول والغاز. وهذا من شأنه ان ينعكس سلباً، على مجرى دورة التراخيص الثانية، التي تأجّلت مجدّداً، كما سينعكس على ما ستقرّره الشركات الثلاثة، الأطراف في اتفاقيتي الاستكشاف والإنتاج في الرقعتين 4 و9، وذلك على ضوء تقييم نتائج عمليات الحفر التي بدأتها مؤخراً.

يدعو سركيس المسؤولين عن قطاع البترول والغاز في لبنان إلى التفكير بتقديم تنازلات وتسهيلات مالية وغير مالية، إضافية، لإغراء الشركات الأجنبية. إلا أنّه يوضح حقيقة أنّ هامش التحرّك في هذا الاتجاه هو شبه معدوم بالنسبة لهؤلاء المسؤولين، وذلك لسببين. لجهة الشروط المالية أولاً، إذ يبدو من الصعب تقديم مغريات جديدة، لأنّ الشروط التي نصّ عليها المرسوم التطبيقي 43/2017 هي من الأسوأ في العالم بالنسبة إلى البلد المضيف. فكلّ مكوّنات دخل الدولة، بحسب هذه الشروط، دون ما هو مطبّق ومتعارف عليه عالمياً. أيّ أنّه أشبه بـ”إتاوة” من أتعس ما يكون، فلا تتجاوز 4 % من قيمة الإنتاج، مقابل 12.5% كمعيار عالمي مطبّق في إسرائيل، والنرويج والدول الأخرى. والضريبة في لبنان حدّدت بـ20%، مقابل معدّل عالمي هو 26%. ولن ينعم لبنان بأيٍّ من العلاوات، التي تدفع عادة عند توقيع اتفاقية الإنتاج، وعندما يرتفع الإنتاج إلى مستويات معيّنة. لهذه الأسباب، فإنّ حصّة لبنان من الأرباح المالية المحتملة، التي قد تحقّقها الشركات الأجنبية العاملة، لن تتجاوز في أحسن الحالات 47 %، مقابل حصة تتراوح بين 65 % و85 % في الدول التي تطبّق نظام تقاسم الإنتاج، الذي نصّ عليه القانون، والذي سمح بعض موظفي وزارة الطاقة لأنفسهم بالتخلّي عنه وفق المادة 5 من المرسوم 43/2017 …

أمّا السبب الثاني لانعدام هامش الحركة في سياسة البترول والغاز في لبنان، فهو استحالة الذهاب إلى تنازلات، أبعد من تلك التي تمّ القبول بها حتى الآن، وفي طليعتها مخالفة الأحكام الأساسية، التي قام عليها القانون  البترولي 132/2010 عبر المادة 5 من المرسوم التطبيقي 43/2017، والتي نصّت على أنّه لن يكون للدولة أيّ مشاركة في الأنشطة البترولية، خلال دورة التراخيص الأولى، (كما في الدورة الثانية على ما يبدو). ما يعني شلّ  الدور المحوري للدولة، في الأنشطة البترولية، من خلال عدم مشاركتها الفعلية، والمباشرة، في هذه الصناعة. هذا فضلاً عن الانحرافات الأخرى، التي أملتها سياسة تقوم على المحاصصة، وتغليب بعض المصالح الخاصة على المصلحة الخاصة.

المصلحة الوطنية والحسّ السليم يستلزمان إلغاء دورة التراخيص الثانية التي أُعلن عنها على أساس نفس شروط الدورة الأولى

كلّ هذا يسمح بالقول إنّ الشروط التي وضعت لاستثمار الثروة الموعودة من البترول والغاز، تناقض كلياً نظام تقاسم الإنتاج، الذي نصّ عليه القانون البترولي، والذي أصبح سائداً في أكثر من 70 بلداً، والعودة، عوضاً عن ذلك، إلى نظام الامتيازات القديمة، التي تمّ تأميم آخرها، قبل نصف قرن. ما يعني بتعبير آخر أنّ لبنان أصبح البلد الوحيد الذي يقبل ويطبّق شروط استثمار لم يعد يقبل بها أيّ بلد آخر، حتّى في البلدان الأكثر فساداً في العالم.

لهذه الأسباب يمكن القول إنّ المصلحة الوطنية والحسّ السليم يستلزمان إلغاء دورة التراخيص الثانية التي أُعلن عنها على أساس نفس شروط الدورة الأولى، والمبادرة فورا لإعادة النظر، في الانحرافات والتجاوزات التي حصلت حتّى الآن، والعودة إلى ما نصّ عليه القانون البترولي بخصوص نظام تقاسم الإنتاج، بالإضافة إلى تبّني المعايير المتعارف عليها، في صناعة البترول والغاز العالمية، لجهة الشروط المالية والضريببة وغيرها.

ويختم سركيس: هذا هو السبيل المنطقي الوحيد، الذي لا بدّ منه كي يكون استثمار الثروة النفطية، الموعودة على مستوى آمال اللبنانيين، وليس لعنة وبؤرة جديدة للفساد، أفظع وأخطر من فضائح الكهرباء، والتلوث والنفايات، ونهب المال العام التي أوصلتنا للأسف الشديد إلى ما نحن عليه اليوم…

 

إقرأ أيضاً

الموساد في بيروت: استجوَب محمد سرور.. حتّى الموت

لم يعد سرّاً أنّ قتل الصرّاف محمد إبراهيم سرور في بيت مري يحمل بصمات الموساد الإسرائيلي. فرقة إسرائيلية خاصّة دخلت لبنان واستأجرت فيلا في بيت…