“رابور” طبي لتغيّب 14 آذار

 

متردداً يمدّ يده إلى الدرج. يمسك القبضة. ثم يتركها. كان يوماً طويلاً، مرّ فيه عليه مرضى كثر. وكان معظمهم خائفاً. أتوا للمراجعة، وكلّ ما يريدونه تطمينات بشأن كورونا. مرضى القلب الأكثر تأثراً بالمرض، وأكثر من يشكّل المرض خطراً على حياتهم. بعضهم متقدّم بالعمر. القلوب في عمر متقدم تتعب. تصير عجوزاً كأصحابها. كان يوماً متعباً. رأى الخوف في عيون المرضى. وتذكّر مريضة لم يطمئن إليها منذ فترة. مريضة متروكة لقدرها، بلا عناية فائقة، وبلا أهل أو أصدقاء. بيد متردّدة استلّ من الدرج دفتراً، وبدأ بالكتابة:

“لمن يهمه الأمر،

إنّ قوى 14 آذار، كما بات معلوماً للجميع، تُعاني من انسداد في الشرايين السياسية الرئيسية التي تغذّي القلب، ولم تنجح عمليات القسطرة المتتالية، بالبالون والرسّور، التي أجريت لها في فتح هذه الشرايين الحساسة التي تهدد حياتها، وباءت بالفشل للأسف كلّ المحاولات لاقناع القيمين على هذه القوى بإجراء عملية قلب مفتوح تنقذها من احتمالات الموت الناتج عن الجلطات التي أصابتها على مرّ السنوات. حاولت في السنوات السابقة، وتحديداً في العام 2016، أن أبلغ الجميع بمدى خطورة الوضع، ونبّهت كل من له علاقة، أنّ الحالة التي نحن بصددها قد تؤدي إلى الموت، موت 14 آذار، في أيّ لحظة، إذا لم نعمل على إجراء العملية الجراحية الصعبة. لقد وضعت كل إمكانياتي وخبرتي الطبية في تصرّف أهل المريضة. أهل 14 آذار، وكان كل أملي، أنا العالم بالظروف الصحية المزرية لهذه القوى، أن يبادر الأهل إلى قرار جريء وحاسم ومسؤول ينقذ مريضتهم من الموت. لكن بلا جدوى.

أعلم أنّ هذا التقرير الطبي تأخّر، وأنّ الأوان ربما يكون قد فات. أعلم أنّ أهل المريضة لا يفكّرون بها في هذه الأثناء، وهي في الكوما منذ سنوات. حتى أنا، طبيبها، لست معها الآن في المستشفى. ولم أزرها من زمان. لكنّني أفكّر بها، وأوصي أن تفكّروا جميعاً بها، لكن من دون أن تزوروها. لا داعي للقاء بها. لا داعي للتجمّع في ظلّها، ولا الاحتكاك بها. فهذا زمن الكورونا. و14 آذار مريضة قلب في حال متقدمة وحرجة. جنّبوها العدوى، بأن تفارقوها، علّها تعيش إلى زمن بلا كورونا، ونتفق، إن نجت من الوباء، على إجراء عملية قلب مفتوح لإعادتها إلى الحياة”.

فتح الدرج مجدداً. أخرج ختماً ودمغ به أسفل الورقة. ثم وقّع اسمه فوق الختم: “الدكتور فارس سعيد، اختصاصي جراحة قلب وأمين عام قوى 14 آذار… سابقاً”.

وضع قلمه على الطاولة. اقتطع الورقة من الدفتر. طواها. وأرجع الدفتر إلى الدرج. أرجع الختم أيضاً. عاد وفتح الورقة وتأمّل فيها طويلاً. قرأها مرة جديدة. ثم أسند رأسه إلى الوراء، متأمّلاً السقف طويلاً. أخذ نفساً عميقاً ثم اعتدل في جلوسه. فتح الورقة وقرأها من جديد.

“لمن يهمه الأمر…”

ابتسم فارس سعيد. ثم راح يضحك. فرط من الضحك. اجتاحته نوبة ضحك كبيرة. مزّق الورقة. ورماها في المهملات. ثم أطفأ ضوء العيادة، وخرج.

إقرأ أيضاً: بيننا وبين حزب الله.. لا ما خلصت الحكاية

 

إقرأ أيضاً

زعامة الحريري تتحدى علوم الطبيعة

  يستحيل أن تكتب عن سيرة سعد الحريري من دون مقاربتها بمعارف أخرى بخلاف السياسة، كالفيزياء وعلم النفس والميثولوجيا واللاهوت والرياضيات. قد يبدو ذلك غير…

رحلة سمير جعجع عبر 14 آذاراته (2/2): استراتيجية المواجهة عبر الصمود

  اصطدم جعجع في العام 2009 برغبة حلفائه في 14 آذار في تحجيمه على إثر أوّل انتخابات نيابية يخوضها بعد خروجه الى الحياة السياسية من…

14 آذار “كما يرويها فارس سْعَيد” (2/2): هكذا خطف حزب الله الحلم

  في الجزء الثاني من شهادة فارس سعيد 2020، حول 14 آذار، يروي رؤيته لأسباب فشل هذه التجرية في ولادة لبنان جديد، من التحضير لانتخابات…

عن التناقض بين 14 آذار و17 تشرين

  تعترضك صعوبة جديّة إذا ما تطرقت إلى 14 آذار 2005 اليوم. هذا الحدث الجماهيري التأسيسي الذي ظلّت تحييه الناس في الساحات ستة مرات من بعده يباعدنا عنه…