إلى لغة الشارع در..

2022-02-03

إلى لغة الشارع در..

مدة القراءة 4 د.

بفارق أيّام قليلة، انقلب المشهد رأساً على عقب. كانت الناس تتذابح مع البنوك للحصول على الدولار. صارت تتذابح معها لرفضه. صورة هلاميّة. دراميّة. هوليووديّة. أقرب ما تكون إلى اللحظة التي يجنّ فيها جنون البشر. ليس في الأمر منطق. ولا عقل. ولا عاقل. ولا حسابات. ولا أرقام. ولا حتى لعبة قمار.

مَن يتحكّم برقاب الناس؟ مَن يُذلّهم؟ مَن يُمسكهم من نواصيهم؟ مَن يعبث بحياتهم وأرزاقهم وكينونتهم وسكينتهم واستقرارهم وأعصابهم؟ أيّ بلد، بل أيّ مزرعة، بل أيّ غابة، هي تلك التي نقطن في رحابها؟

بفارق أيّام قليلة، انقلب المشهد رأساً على عقب. كانت الناس تتذابح مع البنوك للحصول على الدولار. صارت تتذابح معها لرفضه. صورة هلاميّة. دراميّة. هوليووديّة. أقرب ما تكون إلى اللحظة التي يجنّ فيها جنون البشر

فجأة صار مصرف لبنان قادراً على تصدير الدولارات إلى السوق. بل على إغراقه حدّ التخمة. من أين كلّ هذا أيّها الحاكم؟ لا أحد يُجيب. ولا أحد يعرف. بالفعل لا أحد يعرف. وكلّ ما يُقال لا يعدو كونه تكهّنات وأقاويل. بعضهم يُرجّح أنّها من الاحتياط الإلزامي. بعضهم يُخمّن أنّها من عائدات هذه أو تلك. لكنّ أحداً لم يدرك حتى الساعة كيف تُدار هذه المغارة، وكيف ينام اللبنانيون على شيء ويصحون على شيء آخر تماماً.

بعيداً من هذه الأحجية التي تستلزم حكّ الرؤوس وحكّ الركاب وحكّ الضمائر. ماذا يعني أن يتخذ هذا القرار رياض سلامة؟ هل من إهانة توازي هذه الإهانة. نحن في خضمّ ثالث أكبر الانهيارات الاقتصادية التي عرفها التاريخ الحديث. ألا يستحقّ هذا الأمر محاسبة فحسب، ولو معنوية، للمسؤول الأوّل والأخير عن ماليّة البلد؟

ثمّ ماذا عن البنوك التي نهبت أموال الناس. مدّخراتهم. شقاء عمرهم. في واحدة من أكبر وأخطر السرقات المنظّمة والممنهجة على الإطلاق. ماذا تنفع البيانات. التعميمات. الكلام المنمّق والفارغ والمعسول. صار المطلوب من المواطن البسيط أن يحلّ لغزاً مرعباً، مفاده أنّ البنك أعطى أمواله للمصرف المركزي. والمركزي أعطاها للدولة. والدولة وهبتها للأشباح. والمطلوب أن يبحث بنفسه عنهم. وهو لا يزال يستحضر لقاءه الأوّل مع الموظفة الرشيقة التي أخبرته بكلّ ثقة أنّ أمواله تنام في أيدٍ أمينة، وأنّ أحداً في العالم لن يطولها بقضم أو خدش أو سوء، بل ستنمو وتزيد وتتراكم، كلّما نامت واستغرقت في نومها.

 

يأخذون على رجل شهم. عزيز. شجاع. أنّه دخل قبل أسابيع قليلة إلى حرم المصرف الذي سرق أمواله وهو يتأبّط قنينة بنزين ويهدّد بإحراق المبنى بمَن فيه، ما لم يعطوه حقّه بعد سنتين من الإجهاز عليه. كان المطلوب برأيهم أن يظل هادئاً. مترفّعاً. أن يسحب ورقة من الآلة التافهة التي توزّع أوراق التنظيم في طوابير لا تنتهي. ثمّ ينتظر دوره كأرعن أو مخبول. وحين يسأل بخجل عن وديعته المسلوبة. يتجاسر عليه المتجاسرون. تماماً كما لو أنّه آتى فعلةً لا يفعلها إلا ناقص أو نذل أو وضيع.

الأنكى من كلّ هذا أنّ الحاكم لا يزال ينتظر فرصته للوصول إلى رئاسة الجمهورية. وهو مقتنع تماماً بارتفاع حظوظه. وأصحاب المصارف يزايدون في وطنيّتهم وحرصهم على الاقتصاد الوطني، وكأنّهم غير معنيّين بالأزمة لا من قريب ولا من بعيد. فيما المطلوب من اللبناني أن يدفع الثمن من جيبه ومن عرق جبينه، وأن يتقلّب كلّ لحظة فوق جمر لا يهدأ ولا يستكين. ثمّ حين ينتفض لكرامته وكرامة عائلته، يتدافع المتدافعون نحو رجمه وتلقينه الدروس الممجوجة حول الأصول واللياقات، بعيداً من الممارسات الشوارعية.

ولأنّ هذا النص وُلد في الشارع. بلغة أبناء الشارع ونبضهم وقهرهم وعذاباتهم وضعفهم وهوانهم. كان لا بدّ له أن يكون على سجيّتهم. على قدر آمالهم وتطلّعاتهم. لا مجال للمحاباة. ولا للتنميق. ولا للسجع ولا للبيان ولا للبديع. بل لا بدّ أن يذهب النصّ رأساً نحو التعبير عن رغبتهم الموغلة في صدورهم، والتي تتجاوز التهديد بإحراق البنوك إلى مساواتها بالأرض، وتحويلها أثراً بعد عين، وسحل أصحابها وكبار لصوصها في الأزقّة وفي الشوارع، جنباً إلى جنب مع كبير المغارة التي لا يعرف أحدٌ سواه ما فيها وما لها وما عليها.

إقرأ أيضاً: كيف أكل انخفاض الدولار 50% من قدرتكم الشرائية؟

أتعتقدون حقّاً أنّ بلادنا هذه محكومة بقوّة القانون. بمنطق العدالة. بميزان القضاء؟ أنتم مشتبهون وواهمون. تعلّموا الرفس والخلع والتكسير. وما أخذوه منكم بالقوّة استردّوه بالقوّة.

هذا كلام زقاقيّ؟ متهوّر؟ غير مسؤول؟ صحيح. معكم كلّ الحقّ أيّها الكسالى. كنت أودّ أن أردّ عليكم، لكن هيهات.

إقرأ أيضاً

نتنياهو و”حماس”.. واحد

مذهل مستوى التشابه بين الانتقادات الأخيرة التي وجّهها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ضدّ حماس، من منصّة قمّة البحرين، وتلك التي وجّهها الوزير في حكومة…

العراق: لنا “الصدر” دون العالمين…!

كان لافتاً الاهتمام الذي أبدته قناة “المنار” التابعة للحزب بالصلاة الجامعة التي دعا إلى إقامتها في العاصمة العراقية بغداد “التيار الوطني الشيعي”، وهو الاسم البديل…

مصر وإسرائيل… كشف المستور

كان السلام المصري الإسرائيلي ناقصاً بفعل افتقاره إلى التطبيع الشعبي، وعارياً بفعل انعدام عمقه الإقليمي، وما ينطبق على مصر ينطبق على الأردن، مع اختلافات لا…

التسوية: لا ثقة للعرب برعاتها وأطرافها

ما صدر عن القمة العربية في البحرين هو الحدّ الأقصى من العمل الدبلوماسي المنضبط في ظلّ عالم مرتبك شديد السيولة، لا ثقة لدى الدول العربية…