إيران – السعودية: إمتحان “حقل الدرّة”.. والذكاء الاصطناعي

مدة القراءة 6 د


قبل فترة، كتب الأستاذ عماد الدين أديب في موقع “أساس” مقالة تحت عنوان “بشّار والسعوديّة.. الخطأ الأوّل هو الأخير”، والعنوان هو بالغ الدقّة في مراميه، إذ إنّ النهج السعودي المتّبع بالانفتاح على دول متعدّدة، بعضها كان في خانة الخصوم، يعبّر عن نقلة استراتيجية لا بدّ للمقبل عليها أن يكون على قدر مسؤوليّتها. إذ لا مجال للمناورة ولا تضييع الوقت، وهذا ينطبق على إيران كما لبنان. لكنّ المسار السعودي في هذا النهج الجديد يبدو سريعاً، بخلاف التباطؤ الإيراني المستمرّ، وهذا قد يكون ناتجاً عن صراعات الأجنحة ومراكز القوى داخل النظام، ومع الحلفاء أيضاً. الخطأ الأول هو الخطأ الأخير، وذلك بضمانة الصين مع إيران، وضمانات كثيرة مع الآخرين. والامتحان الإيراني الأول سيكون مرتبطاً بتبلور الموقف من تطوير حقل الدرّة النفطي على الحدود بين إيران من جهة، والكويت والسعودية من جهة من دون التنسيق مع السعودية والكويت. سيكون ذلك اختباراً جدّيّاً للتقارير والتفاهم والوساطة الصينية، كما جرت اختبارات سابقة في لبنان وسوريا. وقد جدّدت المملكة أمس الأوّل  دعوتها إيران إلى الترسيم مع اعتبار الكويت والسعودية طرفاً تفاوضياً واحداً، وفقاً لأحكام القانون الدولي.

يدفع ذلك إلى العودة إلى احتمال الوقوع بالخطيئة، التي تحدّث عنها البابا بيوس الثاني عشر، حين “فلسف” الخطيئة بأنّها “وصول البشر إلى مرحلة لا يدركون فيها معنى الحقيقة”. وهذه الفكرة طوّرها باروخ سبينوزا بتعريف “الخطيئة السياسية”، ومسؤولية الفرد التي توازي مسؤولية المؤسّسة في أيّ دولة. وهو ما يفرض تواؤماً وتكاملاً بين الفرد والمجتمع والدولة. بذلك لا يمكن إلقاء اللوم على طرف في محاولة تبرير للطرف الآخر. وهذا أبرز ما كان متّبعاً من قبل إيران، وقبلها حافظ الأسد، وقد تعلّمه اللبنانيون بشغفٍ من الجانبين

في السياسة، كلّ ما انطوت عليه الاستراتيجية السعودية ورؤية وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان يظهر متوائماً مع كلّ ما يجيب عليه أيّ حوار مع الذكاء الصناعي

في الحديث عن الخطيئة لا بدّ من اللجوء إلى آينشتاين أيضاً، الذي اعتبر أنّها “ممارسة الخطأ والوقوع به أكثر من مرّة وتوقُّع نتائج مختلفة”. فيما ترتكز الرؤية السعودية على الانطلاق من دبلوماسية مستدامة لخلق شراكات استراتيجية ضمن أطر مؤسّساتية للحفاظ على مكتسبات الأمن والسلم والازدهار.

عروبة جديدة ومختلفة

قراءة واحدة لا تكفي المرء أو المراقب لتقديم إحاطة شاملة بالتحوُّلات داخل السعودية. إنّها سعوديّة جديدة تولد، وتستولد معها معالم عروبة جديدة، عالم حديث وشرق أوسط مختلف. في السابق قُسّمت قاعدة النظام العالمي إلى نوعين، دول الشمال ودول الجنوب. لم يكن التقسيم جغرافياً بل على أساس اقتصادي وسياسي. كذلك تقسيم العالم بين الشرق والغرب لا يشمل الجانب الجغرافي إنّما الوجهة السياسية والاقتصادية، وعليه يمكن للشرق الأوسط الذي تسعى السعودية إلى إنشائه ترتيبه وفق التصنيفين السابقين.

تستولد السعودية نفسها والمنطقة وفق أسس ومعالم جديدة. هو الشرق الأوسط الجديد الذي يريده أمير شابّ اسمه محمد بن سلمان. وهذا الشرق الأوسط يناقض صورة أخرى رُسمت له ليقوم على أسس التفريق والصراع المذهبي والطائفي والعرقي. تسابق هذه الولادة تطوُّر ومقبولية الذكاء الصناعي لدى العوامّ. وقد وضعت السعودية نفسها على سكّة تطوير هذا الذكاء، إلا أنّها واقعياً تجد نفسها في سباق حقيقي مع كلّ هذا التطوّر المتسارع مستفيدة من عوامل كثيرة، بينها مرونة القيادة وسرعة الحركة واتّخاذ القرار وفتوّة المجتمع وحيويّته مع التركيز على الاستثمار له وبه.

هذا السباق مع الذكاء الصناعي يمكن تلمّسه في مجالات كثيرة، سواء في الرؤية السياسية والاستراتيجية أو الفنّ والثقافة اللذين شهدا نهضة متجدّدة بإشراف هيئة الترفيه السعودية، مع استحضار أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ وآخرين من عمالقة الزمن الجميل، بتقنيات الذكاء الجديدة. وبذلك جمعت السعودية الأزمنة، الصورة، الصوت، الشجن والنوستالجيا ونجحت في تحويلها إلى واقع يعايش أحلاماً ما كان أحد يتخيّل أنّها ستتحقّق.

قراءة واحدة لا تكفي المرء أو المراقب لتقديم إحاطة شاملة بالتحوُّلات داخل السعودية. إنّها سعوديّة جديدة تولد، وتستولد معها معالم عروبة جديدة

“أجوبة” الذكاء “السياسية”

في السياسة، كلّ ما انطوت عليه الاستراتيجية السعودية ورؤية وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان يظهر متوائماً مع كلّ ما يجيب عليه أيّ حوار مع الذكاء الاصطناعي. وفي ردّ على مجموعة أسئلة طُرحت على “تشات جي. بي. تي”، أتت الأجوبة مطابقة تماماً لما تحتويه الرؤية السعودية المتظهّرة في المسار السياسي المفتوح منذ فترة. وكانت تجلّياته الذهاب إلى التلاقي والتواصل مع الجميع، خصوصاً الخصوم والأعداء، بدلاً من البقاء في حالات أسر الصراعات. وقد وازنت السعودية في سياستها بين الشرق والغرب، وذهبت إلى اتفاق مع إيران من الصين، وإلى تبريد مع تركيا وإلى تجديد علاقاتها العربية وصيانتها، وصولاً إلى المصالحة مع بشّار الأسد.

طُرحت على الذكاء الاصطناعي أسئلةٌ عن كلّ هذه التطوّرات، فدعت الإجابات إلى التركيز على التواصل الفعّال والاحترام المتبادل والبحث عن النقاط والقواسم المشتركة والتمتّع بالتسامح والقدرة على التفاهم والسعي إلى العمل المشترك، لما فيه مصلحة مشتركة للجميع. وهذا بحدّ ذاته ما ينطبق على السياسة السعودية شرقاً وغرباً، التي تحرّرت من أعباء الصراعات التاريخية والاستمرار فيها وراحت تؤسّس لمسار جديد. وينطبق جزء من هذه الإجابات على الوضع في لبنان ويتطابق مع موقف السعودية الذي تمّ إبلاغه لكلّ الدول المعنيّة بالملفّ اللبناني.

صناعة القيادات الشابة

في سياق الاستثمار بالمستقبل، أكثر ما تركّز عليه السعودية هو صناعة القيادات الشابّة، في إطار تحويل المجتمع العربي إلى مجتمع فتيّ يواكب التحوّلات والتطوّرات على الصعيد العالمي. وهذا ما يتجلّى في القيادات الشابّة ضمن رؤية 2030 المستدامة. وبناء على هذه الرؤية يبدأ مسار إنقاذ دول المنطقة المتعثّرة بالنهوض والالتحاق بركب المشروع السعودي الذي يمكنه أن يتيح فرصاً استثنائية لأيّ دولة راغبة بسلوك مسار التطوّر. ويمكن تلمّس هذا المشروع في دراسة فتح الحدود، وشبكة القطارات التي يمكنها أن توصل الشرق بالغرب وتعيد التماسّ بين الدول العربية.

إقرأ أيضاً: دخول إيران على ثلاثيّ نيويورك: مسار رئاسيّ مشترك؟

هذا جانب جديد من الرؤية السعودية للمنطقة والعالم، غايته الانسياق في حقبة حداثة العالم ومواكبة القرن الواحد والعشرين، وليس البقاء في حالة من التجمّد أو التصحّر السياسي والثقافي. بذلك تتحوّل السعودية إلى قوّة عالمية ومؤسِّسة لمسار جديد، تجعل من نفسها قاطرة المنطقة، فيما على من يريد تجنّب الخطيئة والوقوع في شرّ الأعمال أن يسعى إلى الالتحاق بها. وأمّا من يناور ويتخلّف فسيكون في مرحلة الخطأ الأخير، ويبقى خارج الزمن المفتوح، غارقاً في الانغلاق. 

مواضيع ذات صلة

أسئلة إيرانيّة وجوديّة بعد الضّربة الإسرائيليّة وانتخاب ترامب

خمسة أسئلة حاسمة، فرضتها الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، لم تكن مطروحة بهذه الحدّة من قبل. وهي ليست أسئلة تتعلّق بالتكتيكات والمناورات بقدر تعلّقها بجوهر…

إيران خسرت “قاعدتها المتقدّمة”… وباتت “في المواجهة”

مهما قيل ويُقال عن الحزب باعتباره القوّة التي لا تُقهر والتنظيم الذي لا يُخترق أمنيّاً على الرغم ممّا أصابه من أهوال وصلت إلى درجة محو…

أنقرة – موسكو: الشّدّ والجذب السّوريّ؟

صدر عن القيادات السياسية التركية والروسية في الآونة الأخيرة تصريحات متناقضة حول ملفّات ثنائية وإقليمية مشتركة تعني الطرفين، الشقّ السوري فيها كانت له الأولويّة دائماً…

ترامب عن إيران ولبنان: كلام ممنوع من النّشر

قبل 72 ساعة من فتح صناديق الاقتراع في أميركا، مرّ ترامب مرور الكرام في ذلك المطعم في ديربورن، في الضاحية الجنوبية لمدينة ديترويت. وقف موزّعاً…