في أي نهر يصبّ الدم العلوي؟

مدة القراءة 6 د

مئات القتلى في الساحل السوري، غالبيتهم الغالبة من العلويين. يعلّق البعض دماء هؤلاء بـ”رقبة النظام الإيراني”، ويحيله آخرون إلى “رقبة النظام الأسدي”، بينما يقف أحمد الشرع ليتصدّى لمحاولة الانقلاب الأولى على إنجازات الثورة السورية. لا أفق يبشّر بحلّ مع سلوك العلويين… فإلى أين يمضي هذا الدم؟

 

 

شهدت مناطق اللاذقية وطرطوس وجبلة والأرياف المحيطة بها مواجهات مسلحة بين “فلول يائسة” تابعة لنظام آل الأسد، وبين القوى العسكرية الموالية للنظام الجديد. ترافقت الإشتباكات مع إعلان حلفاء إيران في سوريا عن إنشاء “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا” التي تضم مجموعات مسلحة تحت مسمى “أولي البأس”. شعارها ذراعٌ يحمل بندقية، يشبه شعارات الميليشيات العراقية الموالية لإيران في العراق، و”حزب الله” في لبنان، و”زينبيون” الباكستانية، و”فاطميون” الأفغانية. وكان “حزب الله” في لبنان كان قد أطلق على الحرب الأخيرة التي خاضها في لبنان في مواجهة الجيش الإسرائيلي تسمية “معركة أولي البأس”.

قبل أشهر، سقط نظام آل الأسد في سوريا، بلا ضربة كفّ واحدة. اندثر من دون أن يخوض معركةً عسكريةً واحدة تُذكر. بدا عشية الثامن من كانون الأول، نظاماً من ورق. وطار مع أول هبّة ريح. فوجئ الجميع بسقوطه المدوّي هذا، من دون قتال. القتال بدأ لاحقاً، وقبل أيام فقط، وفي معقل الأسرة العلوية. لمزيد من الدقة، في معاقل العلويين.

سقوط المعادلات

العارفون بأحوال النظام الأسديّ، يقولون صراحةً إنّ النظام سقط بسقوط المعادلات التي لطالما استمدّ قوّته منها، واعتاش عليها زهاء خمسة عقود ونيّف، قبل أن يتفرق العشاق. روسيا عادت إلى حدودها التاريخية راضيةً من الغنيمة بالإياب وأوكرانيا. نظام الملالي أُكرِهَ تحت القصف، على العودة إلى إيران للدفاع عن نظامه ومستقبله في قلبها وعلى أراضيها، وعند حدودها الجغرافية، جوّاً وبرّاً وبحراً. “حزب الله” انكفأ ليحصي خسائره البشرية والعسكرية والسياسية ولملمة الدمار الذي جلبه على أهله وبلده وحلفائه.

“وحدة الساحات” التي أُعلنت بصورة شهيرة التُقطت في دمشق (الرئيسان بشار الأسد، وأحمدي نجاد، والسيد حسن نصر الله)، لا مكان لها خارج ألبومات الصور. لم تعد أكثر من مجرد ذكرى. ذكرى مريرة وقاسية. ستبقى آخر صورة للمحور الذي كان يبدأ من طهران ولا ينتهي في الحديدة، مروراً بالمدن العربية الرازحة تحت ثقل الدمار الذي جلبته عليها فصائل عسكرية بأذرع سياسية وبمسميات مختلفة: حركة “حماس”، حركة “الجهاد”، “حزب الله”، فصائل “الحشد الشعبي” وميليشيات الحوثيين.

“وحدة الساحات” صارت جثثاً موزّعةً على جنبات الطرقات، وركاماً أنّى تلفتت.

قبلها، سقطت معادلات أخرى كانت تشكّل درعاً للنظام الأسديّ، وحصناً يمدّه بالمناعة. سقطت المعادلة الطائفية – السياسية في سوريا، أي تحالف الأقليات: العلويون والدروز والإسماعليون. سقطت أيضاً معادلة الأخوين في الطائفة العلوية: حافظ ورفعت، والأخير أُكرِه على مغادرة سوريا والابتعاد عن ميليشياته، ولم يُسمح له بالعودة إلى سوريا إلا مؤخراً، وقبل سقوط النظام بفترة وجيزة، وطبعاً من دون نفوذ أو هامش للحركة.

… وسقوط بغداد

لاحقاً سقطت معادلة سيطرت على بلاد الشام لعقود: العراق ذو الأغلبية الشيعية يحكمه سنّي، وسوريا معقل السنّة، يحكمها علويّ. سؤال سقوط النظام الأسدي طُرح عملياً لحظة سقوط نظام صدام حسين. ومنذ تلك اللحظة، ذهب الأسد الابن، بعيداً عن العرب والإجماع العربي، ليخوض معركة الدفاع عن نظام أبيه.

قطع الأسد الإبن “شعرة معاوية” مع كل نظام عربي، وكل دولة عربية. وسوريا بلد لا يُحكم بغير “شعرة معاوية”، منذ الدولة أو الخلافة الأموية. فهم الأسد الأب اللعبة جيّداً، وكان إلى ذلك براغماتياً يميل مع الريح كيفما تميل: يرتمي حيناً في حضن الاتحاد السوفياتي، وأحياناً في أحضان الولايات المتحدة ، عند الحاجة وحسب اللزوم.

أما الابن، فاشتهر بالكذب، والتنصّل من كل اتفاق، والتنكّر لكل معروف، والغدر بكل صاحب، وبقطع كل يدّ مُدت إليه بالخير والنصيحة. ولم يقتصر هذا الأسلوب على الدول والحلفاء الخارجيين، وإنما صار سياسة داخليةً: تنكّر الأسد لقادة الميليشيات التي ساعدته طوال عقد ونيّف في الدفاع عن نفسه والبقاء على قيد الحياة، فعزل بعضهم، وسجن بعضهم، ونكّل بمن تبقّى.

ورثة ثقيلة

هكذا بدا العلويون، أبناء الساحل السوري، وحيدين بلا نظام ولا ميليشيا ولا حلفاء، بعدما فكّك الأسد قبل رحيلة كل معادلة أو حلف أو علاقات بينية، وبلا جيش يذود عنهم (والجيش السوري جيش علوي قيادةً وضباطاً وعقيدةً وإن غير معلنة)، خاصةً بعد حلّ الأخير من قبل أحمد الشرع، الرئيس السوري المنصّب حديثاً. وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ! فالنظام البائد، أورث هذه الطائفة الكريمة، في بلاد الطوائف والأقليات، تركةً ثقيلةً حصّلها على مدار عقود: الدم السوري.

والدم في بلاد العرب وثقافاتهم وأدبياتهم، يستسقي الدم، ويجرّ حروباً وعداوات غالباً ما تجد تفسيراً لها في التراث الديني الإسلامي العربي، وتشغل حيّزاً في علم آخر الزمان ونهاية العالم والتاريخ… ويوم القيامة. والأخير شرطه دمار سوريا وخراب دمشق، كما في الكتب الدينية الإسلامية والمسيحية.

لا يمكن قراءة الدم العلوي المهدور إلا على صفحات نهر الدم السوري المسفوك منذ عقود، والحريات المهدورة منذ “بعث”، والحياة السياسية المفقودة منذ الاستقلال والانقلابات المتتالية. ولئلا يُفهم الكلام ويُفسّر كما تشتهي النفوس الطائفية المريضة، الدم يستسقي الدم: نعم في المجتمعات القبلية والإثنية والطائفية، لكنه لا يبرره في عالمنا الحديث ولا في مفاهيم العدالة الإنسانية وحقوق الإنسان، وحكماً في سوريا الحديثة، سوريا الخارجة لتوّها من كهف “الأسد”، سوريا المستقبل.

الدم يستسقي الدم، لكنه لا يبني وطناً ولا دولةً، ولا يعيد ميتاً ولا راحلاً أو هارباً.

عليه، الأحداث والمجازر “الماضية” على قدم وساق في الساحل السوري، في أي سياق توضع: سياق تثبيت النظام الجديد وحمايته، وتالياً الحفاظ على منجزات الثورة السورية، أو في سياق عودة النظام السابق بواسطة فلوله “اليائسة” كيفما دارت الدوائر؟

إقرأ أيضاً: سوريا المستقبل… لا تقسيم ولا إيران

المعارك المُؤجلة

ما يجري على الساحل السوري من مجازر بحق المدنيين، ومعارك مؤجلة منذ ما قبل سقوط النظام، أو منذ نصف قرن، يعيد إلى الأذهان تاريخ سوريا من قديم الأزل: مجازر إثنية وطائفية، ومعارك أهلية وبينية، وحروب واقتتالات بالجملة والمفرق، كانت تتخللها حقبات سلمية سرعان ما تتلاشى ليستأنف الدم مجراه.

ما يجري في سوريا يجري في سياق التواريخ الدينية للجماعات السورية، لا في سياق وطنيّ. فسلوك الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي نأى بنفسه حتى اللحظة عمّا يبعث الريبة والشك، ليوحي بالطمأنينة لجميع مكونات الفسيفساء السورية، لم يؤطّر حتى اليوم، ولا وُضع في سياق سوري بحت. وهذا مفهوم في ظلّ تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين في سوريا، وفي ظلّ الصراع على سوريا، وهو الصراع الذي لم تُعرف بدايته لتُعرف نهايته، وهو هو الصراع الذي جلب على سوريا وعلينا، ويلات نظام الأسدين.

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

قيام الدولة: بالإرغام أو بالغلبة؟

استقرّ الرأي في الأنظمة الحديثة والمعاصرة على أنّ الدولة هي التي يكون من حقّها ممارسة العنف بمفردها. والسلطة في ممارساتها الشاملة تكون محايدة. أمّا في…

هل يغيّر ظريف “سرّاً” حسابات طهران الخاطئة؟

ارتقت “الضغوط القصوى” لدونالد ترامب على إيران إلى درجة الضربات “المميتة”، كما قال، لذراعها الحوثيّ في اليمن. فهل يحمل هذا التطوّر طهران على تعديل نهج…

“الرّئيس المجنون” يحيّر العالم

مع تصاعد التوتّرات في أنحاء العالم، ثمّة سؤال بسيط لكن بعيد المنال: هل يملك الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطّة؟ من المبادرات الدبلوماسية المفاجئة إلى التهديدات…

سوريا: صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

تجاوز الحدث السوريّ، في جوهره العميق، فكرة سقوط نظامٍ أو قيام آخر. ما تشهده سوريا الآن ليس أقلّ من أزمة هويّة، في لحظة اختلالٍ خطيرة…