الدولة الأمويّة “عربيّة أعرابيّة” بحسب تعبير الجاحظ (توفي عام 870م). وهي الدولة الكبرى في تاريخ الإسلام، إذ تمتدّ من حدود الصين إلى حدود فرنسا. كان ذلك في أوج قوّتها. لكنّها كانت قصيرة العمر في المشرق (حوالى تسعين عاماً)، وأطول زمناً في الأندلس (حوالى 275 عاماً). وهي تنقسم إلى ثلاث حِقب وثلاث دول، على رأس كلّ حقبة شخصية أساسية: الدولة السفيانيّة التي أقامها معاوية بن أبي سفيان (توفّي عام 680م)، والدولة المروانية بقيادة عبدالملك بن مروان (توفّي عام 705م)، والدولة الأموية في الأندلس، التي شيّدها عبدالرحمن الداخل (توفّي عام 789م).
ثمّة مفارقة شديدة الوقع والغرابة، وهي أنّ الدولة السفيانيّة نشأت رسمياً عقب تغلّب معاوية بالسياسة على شخصية إسلامية تاريخية رفيعة القدْر والمرتبة، عليّ بن أبي طالب، لا بمعركة عسكرية حاسمة، ولا حتى بعنوان المطالبة الصريحة بالسلطة، بل بمجرّد دعوى الاقتصاص ممّن قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان عام 656م، وهم من بين الجنود المتمرّدين الذين اجتاحوا المدينة، بوصفه وليّ دم ابن عمّه عثمان (أميّة جدهما الأعلى). والمتمرّدون على سلطة عثمان هم أنفسهم الذين بايعوا عليّاً بعد قتل عثمان، وأصبحوا نواة جيشه وأبرز قادته. فتوجّه معاوية بالحملة على عليّ حاملاً قميص عثمان الملطّخ بالدم رافضاً مبايعته، ومطالباً إيّاه بتسليم قَتَلة عثمان، بل متّهماً إيّاه بالتواطؤ معهم. فهذا أكثر من مجرّد اجتهاد من معاوية فأخطأ فيه، كما حاول علماء السنّة إيجاد العذر له على مرّ التاريخ، وذلك لأنّه أحد صحابة الرسول، وأحد الكتّاب له (إن كان كاتب وحي، أو كاتب رسائل، فلم يكن إلّا لمرّات يسيرة). ليس من السابقين في الإسلام ولا في العلم ولا الجهاد، بل هو من أواخر من أسلم سرّاً قبيل فتح مكّة، فيما عليّ أوّل من أسلم في مكّة من الفتيان، وهو ابن عمّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، تربّى عنده، وتلقّى الإيمان مباشرة منه. وهو من أعظم الشجعان المقاتلين المشهود لهم في تاريخ الإسلام، ومن الصحابة العشرة المبشَّرين بالجنّة. وهو باب العلم بحسب شهادة النبيّ فيه. فلا مجال للمقارنة بين الرجلين.
الدولة الأمويّة “عربيّة أعرابيّة” بحسب تعبير الجاحظ (توفي عام 870م). وهي الدولة الكبرى في تاريخ الإسلام
لم يكن معاوية الذي وُلّي الشام على مدى عشرين عاماً، إثر مشاركته في فتحها، وترسّخ حكمه فيها، وتكتّل القبائل العربية حوله، ليترك منصبه بسهولة، أو تدَعَه عصبيّته من بني أميّة والمتحالفين معهم يترك الأمر لعليّ بحسب ما أشار إليه ابن خلدون، وذلك بعد النفوذ الذي حازه بنو أميّة في عهد عثمان بن عفّان الأمويّ. لكنّ طريقه إلى السلطة لم يكن سهلاً، من كلّ النواحي، لا سيما في ما يرتبط باكتساب شرعية الحكم، وفي مقارعة رجل كعليّ، كما أشار الدكتور رضوان السيّد في كتابه: “الجماعة والمجتمع والدولة، سلطة الأيديولوجية في المجال السياسي الإسلامي“. لذا تغلّبه على خصمه يثير الدهشة. أمّا نجاحه في كلّ هذا، فيرجع إلى عدّة عوامل، منها ما كان يتمتّع به معاوية من موهبة غير عاديّة في التواصل وإدارة التوازنات القبلية. إذ كان على درجة عالية من الذكاء والمرونة، بالإضافة إلى صناعة العلاقات الاجتماعية التي أتقنها، وقدرته على استقطاب الأنصار والحلفاء، وعلى إضعاف الخصوم، والإيقاع فيما بينهم. كانت في نهاية المطاف معركة خاسرة بين مبدئية عليّ وبراغماتيّة معاوية الذي أفاد من مطالبة بعض كبار الصحابة بالاقتصاص من قَتَلة عثمان، لا سيما من بقيّة مجلس الشورى الذي عيّنه عمر بن الخطّاب (اغتيل عام 644م) لاختيار خلف له، ومنهم طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوّام اللذان قُتلا إبّان معركة الجمل عام 657م، وكانا مرشّحين طبيعيَّين لخلافة عثمان، حتّى إنّه أفاد من تورّع بعض الصحابة، الذين وقفوا على الحياد، خشية الفتنة. ندموا متأخّرين، لكنّهم بموقفهم هذا أسهموا دون أن يدروا في مآلات الأمور، التي تجلّت بقيام أوّل مُلك وراثيّ في الإسلام.
حاكم مستقلّ
إلّا أنّ مواهب معاوية الفطرية لم تكن تكفي لولا الظروف التي ساعدته. أخوه من جهة الأب، يزيد بن أبي سفيان (توفّي عام 639م)، وهو أكبر منه ببضع سنوات، كان من العقلاء والشجعان. وهو أحد الأُمراءِ الأربعة الذين ندبهم أبو بكر (توفّي عام 634م) لغزو الروم في بلاد الشام. عقد له الراية، ومشى معه تحت رِكابه يسايره، ويودّعه، ويوصيه، وما ذاك إلّا لشرفه وكمال دينه كما يقول الذهبي (توفّي عام 1348م) في كتابه: “سِيَر أعلام النبلاء“. ولمّا فُتحت دمشق ولّاه عمر عليها. وكان معاوية في جيش الفتح تحت قيادة أخيه يزيد، فلمّا أُصيب بالطاعون الذي ضرب الشام آنذاك، جعل معاوية مكانه أثناء احتضاره، فأقرّه عمر على ذلك احتراماً ليزيد، وتنفيذاً لتوليته. ومع وفاة أخيه وعدد من كبار القادة في الشام، حدث فراغ في هيكلية القيادة، وهو ما جعل معاوية يرتقي بسرعة، ليصبح والياً على الشام كلّها، في أواخر عهد عمر، أو في عهد عثمان. وفي هذا المنصب الذي طال المقام فيه، تفتّقت قدراته الكامنة ومواهبه السياسية والعسكرية، وكان ذا صلاحيّات واسعة، كحاكم شبه مستقلّ عن المركز. وكانت الشام منطقة ثغور وتماسّ مع النفوذ البيزنطي على حدود الأناضول، وفي الساحل، فناوش الروم في البرّ والبحر. وقد أنشأ أسطولاً وغزا قبرص عام 654م. وشارك في أوّل معركة بحريّة ضدّ الأسطول البيزنطي عام 655م، وهي معركة ذات الصواري التي انهزم فيها البيزنطيون.
لم يكن معاوية الذي وُلّي الشام على مدى عشرين عاماً، إثر مشاركته في فتحها، وترسّخ حكمه فيها، وتكتّل القبائل العربية حوله، ليترك منصبه بسهولة
كانت الشام منطقة استنفار وعمليات عسكرية. وهذا وفّر لمعاوية كتلة عسكرية جاهزة ومدرّبة. فضلاً عن ذلك، ومع خروج القبائل العربية من الحجاز إلى العراق وفارس والشام ومصر، انتقل مركز الثقل من الجزيرة العربية، وهذا ما دعا عليّاً نفسه إلى اتّخاذ الكوفة قاعدة له. وفي ما يتعلّق بالمحطّات الأساسية لتأسيس الدولة السفيانيّة، يمكن إيراد ما يلي:
– أوّلاً، البناء على مظلوميّة عثمان لتجييش العواطف وتجنيد الجنود، واتّهام الصحابة، لا سيما عليّ، بالتخاذل بل التآمر. وهنا يقول القاضي أبو بكر بن العربي (توفّي عام 1148م) في كتابه “أحكام القرآن“: إنّ الصحابة بُرَآء من دم عثمان، لأنّ الخليفة الثالث منعهم من قتال الثوّار، ومن الدفاع عنه. واستسلم للمحنة، وفدى الأمّة بنفسه. فلمّا بويع عليّ اشترط عليه أهل الشام في نصّ البيعة التمكين من قتَلة عثمان وتنفيذ القصاص فيهم. فقال لهم عليّ: ادخلوا في البيعة، واطلبوا الحقّ تصلوا إليه. فرفضوا. وكان رأيه أكثر صواباً، لأنّه لو اقتصّ منهم لتعصّبت لهم قبائل، ووقعت حرب أخرى، فانتظر استتباب الأمر وانعقاد البيعة العامّة، ثمّ تُرفع الدعوى من أولياء الدم في مجلس الحكم، فيُقضى بالحقّ.
الحسن جمع الأمّة
– ثانياً، عند ظهور تفوّق جيش عليّ في معركة صفّين عام 657م. اقترح عمرو بن العاص (توفّي عام 664م) رفع المصاحف طلباً لتحكيم كتاب الله في النزاع الدائر. وهذه الحركة أوقفت زخم القتال، وزعزعت جيش عليّ. وأفضت النتيجة الملتبسة للتحكيم إلى اهتزاز موقع عليّ، لا سيما بعدما انتهى، بعد مفاوضات بين أبي موسى الأشعري (توفّي عام 665م) موفداً من عليّ، وعمرو بن العاص موفداً من معاوية، إلى خلع عليّ وتثبيت معاوية، وفي رواية أخرى عزل الاثنين، وصعود معاوية مرشّحاً جدّيّاً للخلافة، وانشغال عليّ بقتال المنشقّين عليه (الخوارج) بسبب قبوله التحكيم في ما عُرف بمعركة النهروان عام 659م. وسيقوم أحدهم، وهو عبدالرحمن بن ملجم، بطعن عليّ وهو خارج لصلاة الصبح عام 661م. فأصبح معاوية صاحب الشوكة، فيما عانى الحسن بن عليّ (توفّي عام671م) من تفرّق أصحابه.
إقرأ أيضاً: الإسماعيليّة الآغاخانيّة: نشأتها ورجالاتها (2/2)
– ثالثاً، تنازل الحسن لمعاوية في ما سُمّي بعام الجماعة. فليس معاوية من جمع الأمّة مجدّداً، بل هو الحسن. ولم يصرّح الطبري (توفّي عام 923م) في كتابه: “تاريخ الرسل والملوك” بالشروط التي سطّرها الحسن في الصحيفة البيضاء التي أرسلها معاوية إليه ليكتب فيها شروط الصلح. لكنّ البلاذري (توفّي عام 892م) في كتابه: “جُمل من أنساب الأشراف” أورد رواية أكثر تفصيلاً للمراسلات بينهما، وفيها أن الحسن اشترط شروطاً دينية وسياسية للتنازل، وهي أن يعمل معاوية بالكتاب والسنّة وسيرة الخلفاء الصالحين، وأن لا يولّي أحداً بعده، وأن يتركها شورى من بعده. لكنّ معاوية بعد وقوع الصلح، خطب، فتنكّر لشروط الصلح وأنّه قَبِل بها لوقف الفتنة لا غير.
في الحلقة الثانية: يزيد بن معاوية خطأ وخطيئة.
لمتابعة الكاتب على X: