قد لا يختار محمد دحلان توقيت ظهوره المكثّف على الإعلام. يغيب طويلاً ليعود في مناسبات تربط اسمه بملفّات عديدة في السياسة والأمن والبزنس والدبلوماسية. وفي كلّ مرّة يظهر استحقاق فلسطيني، يعود اسم دحلان مرشّحاً ليكون مدخلاً للحل.
منذ وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، لا يختفي اسم محمد دحلان عن لائحة المرشّحين لزعامة النظام السياسي الفلسطيني العامّ. ومع ذلك لم يُظهر “أبو فادي” يوماً إفصاحاً علنيّاً مباشراً واضحاً في شأن طموحاته ومشاريعه السياسية. حتّى إنّ من يستفزّهم هذا “الزهد”، يرون في الأمر تدبيراً ما يُحاك بعيداً عن الأعين.
حتّى من يناصرون دحلان يعتبرونه شخصيّة “إشكاليّة”. وهم بذلك يتهرّبون من وصف دقيق يمكن الركون إليه لعرض “بروفيل” مناسب يروي سيرة الرجل وطباعه. فالرجل الذي وُلد في خان يونس في قطاع غزّة عام 1961، وعاش تجربة النضال والسجن، ثمّ تقلّد مناصب القيادة في حركة “فتح” ومناصب أمنيّة ووزارية في السلطة الفلسطينية، بات “بقدرة قادر” شخصية عابرة للحدود تعرفه موسكو ولندن وواشنطن، ولطالما اعتبرته بعض العواصم وراء كثير من “المؤامرات”، بما يخلط الواقع بالفانتازيا. خصّصت له تركيا مسلسل “تشكيلات” (Teskilat) التلفزيوني لشيطنته. ويُحكى أنّ دحلان حين التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاحقاً، مازحه معاتباً على إيقاف المسلسل الذي كان يتمتّع بمشاهدته.
قد لا يختار محمد دحلان توقيت ظهوره المكثّف على الإعلام. يغيب طويلاً ليعود في مناسبات تربط اسمه بملفّات عديدة في السياسة والأمن والبزنس والدبلوماسية
كان دحلان قريباً من أبي عمّار. ثمّ صار قريباً من أبي مازن إلى درجة أنّه كان وراء الدفع به ليتقلّد منصب رئيس الحكومة، عام 2003، وهو منصب لم يرُق للزعيم الفلسطيني الراحل استحداثه آنذاك. ومع ذلك فرّق خلاف السلطة بين دحلان والرئيس محمود عباس إلى درجة الخصومة والعداء. كان سهلاً لإبعاد شخصية “إشكالية” مثل دحلان مراكمة الحجج للدفع به عام 2011 خارج السلطة الفلسطينية وحركة “فتح”. ومع ذلك بقي الرجل “رقماً صعباً” داخل المعادلة الفلسطينية، حاضراً حتّى داخل نقاشات غرف القرار في “المقاطعة”، حيث مقرّ رئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله.
براغماتيّة مُحيّرة
يعمل دحلان من مقرّه في أبو ظبي مستشاراً لرئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد. وهو قريب من عدد من الزعماء العرب والأجانب. تدخّل وسيطاً في ملفّات معقّدة بين الدول. يمتلك صداقة مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وفّرت له ظروف محاولة التوسّط لحلّ نزاع سدّ النهضة مع مصر. على مكتبه ملفّات عربية وإقليمية وحتى دولية، يجتهد داخلها لإيجاد التوافقات المناسبة في شأنها. وفيما كثيراً ما يُتّهم بقربه من عواصم كبرى، فقد يُفقده هذا الأمر بالذات إجماع تلك العواصم المتناقضة المصالح والأجندات.
يمتلك دحلان في غزّة شعبية وازنة. وعلى الرغم من “تجربة الدم” في صراع “فتح” وحماس التي استولت على قطاع غزّة عام 2007 في لحظة كان فيها المسؤول الأساسي للسلطة الفلسطينية هناك، تمكّن دحلان، بما يُعرف عنه من براغماتيّة (محيّرة)، من تجاوز جرح تلك اللحظة وأنهى القطيعة منذ التقى مع قائد حماس في غزّة يحيى السنوار عام 2017. وكان دحلان قبل ذلك يمتلك علاقة ممتازة مع حركة “الجهاد الإسلامي”، وعلاقة صداقة شخصية مع قائدها الراحل رمضان شلّح. وحين كانت قطيعة السلطة و”حماس” في أسوأ حالها، كان قادة الحركتين يلتقيان دحلان مراراً، حتى في أبو ظبي.
يعمل دحلان من مقرّه في أبو ظبي مستشاراً لرئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد. وهو قريب من عدد من الزعماء العرب والأجانب
بعد اندلاع حرب غزّة إثر عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، عادت الأضواء من جديد لتسلّط على دحلان. كانت صحافة العالم تتحرّى فهم ما جرى وسيجري. وكانت العواصم التي تقف وراء تلك الصحف تتحرّى علامات أولى محتملة لـ “اليوم التالي” بعد الحرب. اندفعت تلك الصحف تستشرف نهايةً لتلك الحرب تحمل دحلان للعب دور ما. بعد أقلّ من شهر من اندلاع تلك الحرب أجرت هادلي غامبل مقابلة معه لجريدة “التايم” الأميركية. لاحقاً غرّدت معربة عن سعادتها بما لاقته المقابلة من مشاهدة لدى الجمهور الأميركي وما أثارته من جدل وردود فعل. لكن ماذا قال الرجل؟
اقتباسات دحلان في المبادرة المصرية..
كرّر دحلان مواقف حادّة كان أطلقها قبل ذلك في إدانة إسرائيل واستنكار حربها ضدّ غزة وتبرير عملية “طوفان الأقصى” بوضع الحدث في سياق احتلال ثمّ حصار القطاع وانسداد أيّ أفق فلسطيني عامّ. حمّل الولايات المتحدة مسؤولية ما وصلت إليه الأمور من انحدار، مؤكّداً بالمقابل أنّها وحدها القادرة على إحداث التحوّلات المطلوبة من خلال وضع ثقلها ونفوذها وضغوطها على إسرائيل لفرض تسوية السلام المتوخّاة. لكنّه في مقابلة مع مجلّة “إيكونوميست” عام 2023 ثمّ “نيويورك تايمز” عام 2024 اقترح حلّاً لقطاع غزة من خلال قيادة فلسطينية “مستقلّة” ووجود قوّات عربية متعدّدة الجنسيات لفترة مؤقّتة تليها انتخابات عامّة. ومن يغوص بين سطور الخطّة المصريّة التي باتت عربية للحلّ في القطاع، سيجد في سيناريوهات الحلّ اقتباسات من اقتراحه.
إقرأ أيضاً: عندما يتّفق ترامب… مع متشدّدي إيران
في الأيّام الأخيرة عاد الكلام عن دور لدحلان في اللحظة التي أعلن فيها الرئيس عباس في خطابه أمام القمّة العربية الأخيرة في القاهرة العفو عن كلّ المفصولين من حركة “فتح”. وبغضّ النظر عن ديباجات القرار وربّما فخاخه المحتملة، غير أنّ إعلانه أيضاً استحداث منصب نائب رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية، فتح أبواب المضاربات في شأن توافقات دولية إقليمية فلسطينية تضع دحلان في إحدى مفاصل النظام السياسي الفلسطيني.
يقول بعض المقرّبين إنّ دحلان مفرط في الواقعية ولا يؤمن بالتحوّلات المفاجئة. لطالما كان وتيّاره داعيَيْن لوحدة “فتح”وإنهاء انقسامها، لكنّ الأمر، حتى بعد إعلان الرئيس عباس، يحتاج إلى سياق مناسب يرمّم التصدّعات ويعيد الاعتبار لتيّار كامل أُقصي عن حركته. والأرجح أنّ دحلان يراقب التطوّرات في شأن غزّة، ولا يجد أنّ لحظة نضجت للانشغال بطبيعة المرحلة الفلسطينية المقبلة ومن تكون قيادتها. وفيما يحمل العرب خطّتهم فترفضها إسرائيل ويتشكّك فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تبقى مسألة الصلح والوحدة والتوافق داخل البيت الفلسطيني على أهمّيتها تفصيلاً، فيما يرى دحلان أنّ أمر فلسطين لا يقرَّر في غزّة كما لا يقرَّر في رام الله.
لمتابعة الكاتب على X: