يتبادر إلى ذهن كلّ أوكراني السؤال التالي: هل ينفع البيت الأبيض في اليوم الأسود؟ أسوة بالأوكراني تمتدّ هذه الحكمة لتشمل أيضاً كلّ شعوب العالم التي تعاني من صراعات عرقية أو طائفية أو وجودية داخلها أو على حدودها.
ما قدّمته واشنطن في عهد الرئيس السابق جو بايدن طوال السنوات الثلاث الماضية من مساعدات ماليّة وعسكرية ومن موقف سياسي صلب وتشكيل حلف عالمي واسع ومتماسك، إضافة إلى عقوبات اقتصادية وتجميد حسابات موسكو المصرفية، كان فعّالاً جدّاً ومؤثّراً في صمود كييف أمام الغزو الروسي ومنع سقوط النظام في أوكرانيا، والحدّ من احتلال الجيش الأحمر للمزيد من الأراضي وبقاء العاصمة كييف وأغلب المدن الأوكرانية بيد أصحاب الأرض.
في السنة الرابعة من حرب روسيا على أوكرانيا ومع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تبدّل الوضع. انتقلت واشنطن من تقديم المعونات والهبات السخيّة إلى المطالبة بثمن كلّ صاروخ وكلّ قذيفة وكلّ طلقة ذخيرة كانت قد زوّدتها لهذا البلد الذي وقف سدّاً في وجه العدوان نيابة عن أوروبا وعن قوّة الحلف الأطلسي.
رئيس أميركيّ مسيطر
طرد ترامب الرئيس فولوديمير زيلينسكي من البيت الأبيض بطريقة مشينة. لكنّ زيارة زيلينسكي بتوقيتها وبنودها لم تأتِ على قدر كافٍ من التحضير. لم يستوعب الرئيس الأوكراني مدى عنجهية الرئيس الذي فاز بأكثرية وازنة من الأصوات الناخبة جعلته يتحكّم بعدد كبير من الولايات الخمسين، ويسيطر على غرفتَي مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وله أصوات مرجّحة في المحكمة العليا.
يرغب ترامب بالحصول على جائزة نوبل للسلام وبتحضير الأرضيّة الداخلية لانتخابات الرئاسة في عام 2028، فيما تريد أوروبا اتّفاقاً للسلام، لكنّها لن توافق على اتّفاق استسلام من دون ضمانات، لا سيما أنّ مكابح فلاديمير بوتين معطّلة منذ استيلائه في عام 2014 على شبه جزيرة القرم، وفيما بعد على 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية، وما يزال يرغب بقضم مولدوفا ورومانيا.
مكابح فلاديمير بوتين معطّلة منذ استيلائه في عام 2014 على شبه جزيرة القرم
الأوكرانيّون يريدون السّلام
في العام الرابع من الحرب، أكثر من يريد السلام هو الشعب الأوكراني وقيادته، وأوروبا الموحّدة وبريطانيا. غير أنّه لفرض السلام على المعتدي، يقتضي إرفاقه بقوّة القرار السياسي وبقوّة العزم وبقرار استراتيجي يقنع الراغب بالتوسّع بعدم جدوى مسعاه، بل بخطورة إقدامه على تعريض الأمن والسلام لعدم الاستقرار، خاصة في حال حيازته لأنياب نووية.
تتحدّث وسائل إعلام أميركية عن أنّ قرار التعرّض للرئيس زيلينسكي كان متّخذاً قبل وصوله إلى البيت الأبيض، وأنّ سيناريو التعليق على ثيابه وزيّه على مدخل القصر لم يكن إلّا لإعطاء إشارة الانطلاق لهذه الحملة المبرمجة التي شارك فيها بضراوة نائب الرئيس دي فانس.
البيت الأبيض معتاد أساساً على استقبال الرؤساء بأزيائهم الخاصّة منذ رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية الذي وصله بثياب الملجأ، وحتى يومنا هذا مع استقبال إيلون ماسك معتمراً قبّعة ولابساً بنطلون جينز ومنتعلاً حذاء رياضي داخل المكتب البيضاوي.
السّرّ في المفاوضات الأميركيّة – الرّوسيّة
يكمن سرّ حملة ترامب على زيلينسكي في نتائج المفاوضات السرّية التي تجري بين واشنطن وموسكو، وانعقدت أخيراً في مدينة إسطنبول التركية بعد اتّصالات هاتفية طويلة دامت لساعات بين الرئيسين ترامب وبوتين. فالمجابهة احتوت على هديّة قيّمة لبوتين الذي يرى فيها تنازلاً كبيراً من ترامب عن إحدى أهمّ أوراق أميركا في المفاوضات الثنائية.
تظهر نتائج المحادثات الأميركية – الروسية الرغبة القويّة لدى ترامب في تنفيذ وعده الانتخابي الشعبوي بإنهاء الحرب “سريعاً”. إنّما بالقدر نفسه من التصميم يتّضح عدم وجود أيّ رؤية أو أيّ استراتيجية لكيفيّة فرض السلام “بسرعة” على كلّ من روسيا من ناحية، وأوكرانيا وأوروبا من ناحية مقابلة. فما كان من بوتين إلّا أن انتهز هذه الفجوة الرهيبة لفرض سيناريو وقف سريع للحرب على حساب تنازلات من ناحية أوكرانيا فقط. تشكّل هذه التنازلات بجوهرها استسلاماً من دون ضمانات أمنيّة مستقبلية تردع روسيا عن قضم أراضي أوكرانيا.
انعقدت أخيراً في مدينة إسطنبول التركية بعد اتّصالات هاتفية طويلة دامت لساعات بين الرئيسين ترامب وبوتين
تشير التصريحات التي سبقت وصول كلّ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس زيلينسكي إلى واشنطن الممتلئة بالهجوم على القيادة الأوكرانية وعلى أوروبا الموحّدة، وعلى السياسة الدفاعية للقارّة العجوز إلى “قُطَب مخفيّة”. يتمثّل السبب الأهمّ العميق في اصطدام ترامب بشكل غير متوقّع بصعوبات كبيرة تواجه إنهاء الحرب بسرعة، فأصبح أسير أوهامه الشخصية غير الواقعية حول “السلام السريع” غير القادر على تحقيقه.
تبادل الضّغوط
من ناحية ثانية تظهر ملامح نتائج المحادثات السرّية بين موسكو وواشنطن أنّ اتّفاقاً بين الدولتين على ممارسة ضغط أميركي غير مسبوق على قيادة كييف لفرض سلام – استسلام سريع عليها، وبالمقابل تتولّى روسيا إقناع إيران بجدوى صفقة دبلوماسية مع واشنطن بدلاً من المواجهة.
إقرأ أيضاً: تصدّع التّحالف الأميركيّ – الأوروبيّ… يغيّر العالم
أتت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغيلافروف الأخيرة لإيران، وتصريحه في العاصمة طهران بدعوتها إلى اتّباع الاتّفاق الدبلوماسي بديلاً عن أيّ مواجهة مع أميركا، قرينة إضافية على نتائج قوّة بوتين في البيت الأبيض وقوّة ترامب في طهران التي مهما طال الوقت ستتّخذ المسار الدبلوماسي لأنّها تعلم أن لا حظوظ لها في أيّ مواجهة مع واشنطن ما خلا إحراق أعلام أو تصريحات نارية.
لمتابعة الكاتب على X: