“ملكة الجليد” تواجه ترامب… بابتسامة

مدة القراءة 6 د

الأسلوب الهادئ نفسه الذي اتّسمت به رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم خلال حملتها الانتخابية، واعتُبر حينها ضعفاً سياسيّاً، وجعل خصمها يطلق عليها لقب “ملكة الجليد”، هو الذي منحها قوّة حاسمة في قضيّة التعريفات الجمركية على السلع والخدمات المكسيكية. إذ توصّلت مع دونالد ترامب إلى موقف تعاونيّ ردّاً على تهديداته، وهو ما أكسبها نبرة احترام من الرئيس الأميركي تتناقض بشكلٍ صارخٍ مع ردود أفعاله تجاه الزعماء الأجانب الذين واجهوه بشكل مباشر، بما في ذلك الكنديّ جاستن ترودو والأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

 

لمرّتين خلال الشهرين الماضيين حصلت شينباوم على موقف تعاونيّ من ترامب خلال مكالمة هاتفية. إذ أعلن أنّه سيوقف الرسوم الجمركية بنسبة 25 في المئة على أيّ سلع وخدمات مكسيكية تندرج تحت اتفاقية التجارة الأميركية الشمالية حتّى 2 نيسان. وكتب على وسائل التواصل الاجتماعي أنّه كان قراراً اتّخذه “كإجراء توفيقيّ واحتراماً للرئيسة شينباوم”. وتابع: “كانت علاقتنا جيّدة جدّاً، والمكسيك والولايات المتحدة تعملان بجدّ لمعالجة قضايا الهجرة والمخدّرات على طول حدودهما المشتركة”.
كان هذا انتصاراً آخر لرئيسة مكسيكية تولّت منصبها العام الماضي وسط شكوك في امتلاكها الشجاعة لمواجهة ترامب بالطريقة التي قد يفعلها نظراؤها العالميون الأكثر عدوانية، والذكور بشكل ساحق.

هدوء ورباطة جأش
كانت قدرتها على التوصّل إلى اتّفاق تعتمد بشكل كبير على النهج الهادئ الذي حافظت عليه طوال المعركة، علاوة على رباطة الجأش والمهارة المتزايدة التي أظهرتها بما هي متحدّثة سياسية، فنجحت في تهدئة ترامب وإقناع الشعب المكسيكي في الوقت نفسه بأنّها تدافع عن مصالحهم في معركة مع جار أكثر قوّة بكثير.
بعد الاتّفاق على إرسال 10 آلاف من أفراد الحرس الوطني إلى الحدود كجزء من اتّفاق الشهر الماضي، طرحت شينباوم في المرّة الثانية على ترامب فكرة مفادها أنّ إجراءات المكسيك تؤتي ثمارها، واستشهدت ببيانات الجمارك وحماية الحدود الأميركية التي توضح انخفاضاً مستمرّاً في مصادرات “الفنتانيل” على الجانب الأميركي من الحدود.

لقد أيّد 85 في المئة من المكسيكيين الطريقة التي تدير بها أوّل رئيسة للبلاد شؤونها، ارتفاعاً من 70 في المئة في تشرين الأوّل

كان هذا نموذجيّاً لشينباوم، السياسية المهندسة التي غالباً ما تبدو أكثر ملاءمة لحياة أكاديمية هادئة، وهي مهنتها السابقة، من معارك الجغرافيا السياسية الصعبة الحاليّة. عندما سُئلت خلال الانتخابات كيف تعاملت مع خصمها، قالت لمراسل إذاعي إنّ استراتيجيّتها كانت “عدم الوقوع في فخّ الاستفزازات”. واتّخذت نهجاً مماثلاً تجاه ترامب، حين رفضت الانخراط في معارك خطابية وأصرّت على أنّها ستنتظر تفاصيل المقترحات الأميركية قبل الردّ على كلّ منها.

الابتسامة سلاحها
إلى جانب خبراء الاقتصاد في بلادها، عقدت شينباوم بانتظام المؤتمرات الصحافية الصباحية اليومية لتقديم عروض أكاديمية عن تأثير التعريفات الجمركية على السلع المكسيكية على الاقتصاد الأميركي والمستهلكين، وتفصيل تأثيرات الأسعار على السيّارات وغيرها من المنتجات. وكانت حريصة على تجنّب الانطباع بأنّها أصبحت “تابعة” للولايات المتحدة، فقدّمت نفسها مراراً شريكاً لا خصماً. وتحدّثت باللغة الإنكليزية على الهاتف مع ترامب، وهي مهارة صقلتها أثناء إقامتها في الولايات المتحدة، فساعد ذلك في بناء علاقة ودّية بينهما.
أعلنت خططها للردّ على ترامب مع ابتسامة كبيرة على وجهها تمسّكت بها حتى عندما دخلت تعريفات ترامب حيّز التنفيذ. إذا كانت شينباوم تشعر بالضغط من قنبلة ذرّية معلّقة فوق الاقتصاد المكسيكي، فإنّها لا تظهر ذلك.

ترامب
هل من المبالغة القول إنّ شينباوم هي أقوى امرأة في العالم الآن؟
لقد أيّد 85 في المئة من المكسيكيين الطريقة التي تدير بها أوّل رئيسة للبلاد شؤونها، ارتفاعاً من 70 في المئة في تشرين الأوّل، وفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة El Financiero في أوائل آذار. ويشيد أشدّ منتقديها بنهجها الصبور الذي يركّز على السياسة في التعامل مع سيّد البيت الأبيض العدوانيّ المتقلّب. والواقع أنّ هذا الصراع يضع الرئاسة المكسيكية في أعظم موقف نسبيّ من القوّة منذ عقود.

لمرّتين خلال الشهرين الماضيين حصلت شينباوم على موقف تعاونيّ من ترامب خلال مكالمة هاتفية

مقارنة مع نظيرها في واشنطن، تتمتّع شينباوم بنفوذ سياسي ووقت أطول، إذ لن تُجرى الانتخابات النصفيّة في المكسيك حتّى عام 2027 وتنتهي ولايتها في أواخر عام 2030، لتحمّل الصعوبات. بالإضافة إلى ذلك، توفّر تصرّفات ترامب تشتيتاً مثاليّاً عن جذور الضعف الاقتصادي في المكسيك.
تخيّلوا فقط ما قد يفعله ترامب أو أيّ زعيم عالمي آخر مع نسبة تأييد تبلغ 85 في المئة، وأغلبيّة ساحقة في الكونغرس، وحلفاء يحكمون معظم ولايات المكسيك البالغ عددها 32 ولاية، وعدم وجود معارضة كبيرة، وتعديل مقبل للنظام القضائي من شأنه أن يضمن محاكم صديقة في جميع أنحاء البلاد؟!

مستعدّة للتّضحية بالصّين
هذا ليس فوزاً للحكومة المكسيكية، فالعلاقة الاقتصادية الثنائية غير المتكافئة تعني أنّ المكسيك لديها الكثير لتخسره من طلاق مرير مع الولايات المتحدة، بدءاً من الركود المدمّر هذا العام. تعمل شينباوم على إزالة قضيّة التعريفات الجمركية ووضع قواعد تجارية واضحة مع الولايات المتحدة في أقرب وقت ممكن. وتؤكّد جهودها لتشديد الخناق على تجّار المخدّرات وخفض تدفّقات المهاجرين على الحدود جنباً إلى جنب مع حسن النيّة التي أظهرتها في المفاوضات مع واشنطن في الأسابيع الأخيرة أنّها جادّة في التوصّل إلى اتّفاق، حتى إنّها مستعدّة للتضحية بالصين في سبيل التكامل الأميركي الشمالي.

أعلنت خططها للردّ على ترامب مع ابتسامة كبيرة على وجهها تمسّكت بها حتى عندما دخلت تعريفات ترامب حيّز التنفيذ

الواقع أنّ التهديدات بالتعريفات الجمركية تأتي في أسوأ لحظة بالنسبة للمكسيك، مع انكماش الاقتصاد، ووصول العجز المالي إلى مستويات لم تشهدها منذ عقود وانهيار ثقة المستثمرين. لكنّ شينباوم تدير آلة لا يمكن إيقافها، ولن يخرج مشروعها الطموح عن مساره تحت وطأة تهديدات ترامب. قد لا يتناسب هذا مع الروح المهيمنة في واشنطن هذه الأيّام، لكن كلّما نظرت إدارة ترامب إلى المكسيك باعتبارها جزءاً من الحلّ لا المشكلة، كان ذلك أفضل لآفاقها. لقد أدرك رجال الأعمال على جانبَي الحدود هذا منذ سنوات.

إقرأ أيضاً: فريدمان: ماسك يلعب دور المالكي.. وترامب دور بوش

إنّ جارتين تشتركان في حدود يبلغ طولها 2,000 ميل ومشاكل معقّدة خارجة عن سيطرة أيّ منهما، محكوم عليهما بالوصول إلى نوع من الوفاق. قد يفشل ترامب في فهم المفارقة المتمثّلة في أنّ ناشطة يسارية وقومية وشعبية مثل شينباوم تقاتل للدفاع عن تكاملها الاقتصادي مع الإمبراطورية المجاورة حتى التضحية ببعض أيديولوجيّاتها الاشتراكية المقدّسة في الطريق. ولكن إذا سادت في النهاية الدوافع الانعزالية للولايات المتحدة، فإنّ شينباوم ستستمرّ في المضيّ قدماً، ملفوفةً بعلم المكسيك، من دون أيّ تحدٍّ، بمشروعها السياسي، وستفعل ذلك بابتسامة.

*ترجمة بتصرّف لمقالين من وكالة الأنباء الدولية الأميركية بلومبرغ.

مواضيع ذات صلة

فريدمان: ماسك يلعب دور المالكي.. وترامب دور بوش

استراتيجية “الصدمة والترويع” لفريق دونالد ترامب، من خلال الاستيلاء السريع الهائل على الحكومة الأميركية عبر جبهات متعدّدة للحدّ من البيروقراطية وقلب الأولويّات السياسية الداخلية والخارجية…

فريدمان: ترامب عرّاب المافيا؟

هل يقود أميركا شخص خدعه فلاديمير بوتين، شخص مستعدّ لابتلاع وجهة نظر الرئيس الروسي المشوّهة عمّن بدأ الحرب في أوكرانيا وكيف يجب أن تنتهي؟ أم…

عرّاب نهاية التّاريخ: أميركا تنحرف نحو الاستبداد

“لم تعد الولايات المتحدة تدعو إلى الانعزالية فحسب، بل باتت تدعم الأنظمة الاستبدادية أيضاً”. هذا ما قاله أخيراً فرانسيس فوكوياما، الذي كان يعدّ من أهمّ…

فريد زكريا: الشرق الأوسط الجديد يولد الآن

بالنسبة للمحلل السياسي الشهير المذيع في شبكة “سي ان ان” والكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” فريد زكريا، يبدو التقارب بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، تحت…