إلى الخسائر البشرية والاقتصادية والعسكرية، وعودة احتلال مواقع لبنانية، وطفو الانقسام السياسي فوق سطح المشهد السياسي اللبناني، أعادت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان “الاستراتيجية الدفاعية” إلى الواجهة، معلنةً الوصول إلى مفترق طرق لا بدّ من الحسم عنده.
بتعداده أنواع القوّة جميعها، وإبقائه “قوّة القوّة” خياراً أخيراً، و”عند الحاجة والضرورة المشروعة، والفرصة والظروف اللازمة لتحقيق النصر”، يكون رئيس الجمهورية جوزف عون قد أعلن “مواربةً”، في الكلمة التي ألقاها في القمّة العربية، فتح باب الخوض في “الاستراتيجية الدفاعية” العتيدة، لحماية لبنان والحفاظ عليه والدفاع عنه.
“قوّة القوّة” هي آخر الدواء عند الرئيس المنتخب حديثاً، وعليه هي أوّل الملفّات المطروحة للنقاش في عهده، وأكثرها سخونةً ومصيريّةً. فوضع “قوّة القوّة” خياراً أخيراً ومشروطاً على سلّم أولويّات العهد الجديد، دفعٌ لها إلى صدارة المشهد السياسي. والصدارة هذه حكر لها منذ ما قبل خطاب الرئيس: فهي مطلب إقليمي ودولي يكرّس مطالب محلّية “متجاهَلة” منذ عقود، ويتوّج حرباً تتجلّى نتائجها تباعاً منذ أشهر من دون أن تستقرّ في قرار حتى اللحظة.
“قوّة القوّة” هي آخر الدواء عند الرئيس المنتخب حديثاً، وعليه هي أوّل الملفّات المطروحة للنقاش في عهده، وأكثرها سخونةً ومصيريّةً
من عمر الاستقلال
“الاستراتيجية الدفاعية” مصطلح غير قديم في النقاش السياسي اللبناني. ظهر إلى العلن بُعيد صدور القرار 1559، واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانسحاب القوّات السورية من لبنان نتيجةً لما سبق. مصطلح عمره عقدان من الزمن تقريباً، لكنّه يحسم خلافاً عمره من عمر الدولة اللبنانية، أو على الأقلّ عمره من عمر الاستقلال. من يدافع عن لبنان؟ وكيف؟ ومتى؟
إلى ذلك، ارتبط تصدّره النقاش السياسي في لبنان بصدور القرارات الدولية بدءاً من الـ1559، وصولاً إلى الملحق السرّي بالـ1701، أخيراً.
هذا وتحيل عبارة “قوّة القوّة” إلى الاستراتيجية الدفاعية، التي تشير بالبَنان إلى سلاح “الحزب”. فـ”الاستراتيجية الدفاعية” لم تُطرح يوماً للبحث العلمي ولا من زاوية تحصين لبنان وحمايته والدفاع عنه، بقدر ما طُرحت للتصويب على سلاح “الحزب”، وهو سلاح إشكاليّ في بلد الطوائف والغلبات والانقسامات السياسية الحادّة.
إذا كانت حرب تموز 2006 قد أغلقت الباب أمام المجتهدين في البحث عن استراتيجية دفاعية تعدّل ميزان التوازنات السياسية والطائفية في لبنان، فإنّ حرب “الإسناد والمشاغلة” دعماً لغزة ونتائجها وما جرّته من حرب إسرائيلية وحشيّة على لبنان أعادت فتحه على مصراعيه.
“الاستراتيجية الدفاعية” مصطلح غير قديم في النقاش السياسي اللبناني. ظهر إلى العلن بُعيد صدور القرار 1559، واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانسحاب القوّات السورية من لبنان
سياقان مختلفان
المعنى في السياق، لا في العبارة نفسها أو الكلمات والمصطلحات. فحين طُرحت الاستراتيجية الدفاعية بُعيد حرب تموز 2006، على طاولة الحوار الشهيرة، كانت في حدود سؤال وحيد أوحد فرضته الظروف والمعطيات القائمة آنذاك: كيف نستفيد من سلاح “الحزب” وترسانته العسكرية وقدراته القتالية للدفاع عن لبنان وحمايته؟
بمعنى آخر، كان الطرح يقود إلى نتيجة وحيدة هي إضفاء المزيد من الشرعية على هذا السلاح، فوق شرعيّته المستمدّة من ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، وقود الحكومات السابقة. وقتها، خرج “الحزب” من الحرب محافظاً على ترسانته العسكرية، وغير مخروق أو مكشوف أمنيّاً، تحيط به قوى ذات وزن محلّياً وإقليمياً ودولياً. كان سلاحه محصّناً نوعاً ما بتحالف شهير مع “التيار الوطني الحرّ”، والنظام السوري، والنظام الإيراني… وصولاً إلى موسكو وربّما أبعد.
أمّا اليوم فيبدو “الحزب” وحيداً، بلا حليف “مسيحي”، ولا عمق سوريّ، ولا خطوط إمداد، وفي ظلّ نظام إيراني محاصَر لا يعرف ما ينتظره: ضربة تطيحه، أو صفقة تعدّل سلوكه. وتبدو أقوى الدولةُ، مدعومةً بإجماع عربي ودولي لا نظير له. أبعد من ذلك، لا أحد يعرف حجم الترسانة العسكرية لـ”الحزب” أو ما بقي منها، بعد الحرب الضروس التي لم تُبقِ ولم تذر. ربّما لم يبقَ سوى التجربة، وهي في مطلق الأحوال مريرة إذ لم تأتِ إلّا بخسائر اقتصادية فادحة لم تغطِّها إنجازاتها الميدانية يوماً.
تتّخذ “الاستراتيجية الدفاعية” منحى آخر جديداً علينا، نحن اللبنانيين، منذ عقود. وهو منحى عنوانه تخلي الحزب عن سلاحه
وعليه، تتّخذ “الاستراتيجية الدفاعية” منحى آخر جديداً علينا، نحن اللبنانيين، منذ عقود. وهو منحى عنوانه تخلي الحزب عن سلاحه، وحصر السلاح في يد الدولة، سواء توصّلنا إلى “استراتيجية دفاعية” لحماية لبنان والدفاع عنه أو لا.
في ضعفه أم في قوّته؟
في بلد الحوار، لبنان، كلّ حوار عقيم. وفي أحسن حالاته قاصر. تاريخ الحوارات يقول ذلك علانيَةً. دائماً كانت موازين القوى المحلّية والإقليمية والدولية تحسم النقاش، وتفرض على اللبنانيين خلاصات لا تغني ولا تسمن، فتعود المِلَل إلى سرديّاتها الخاصّة، وجغرافيّتها التاريخية، في انتظار حوار سانح أو فرصة أخرى. الآن تحديداً، الحوار فولكلور وطني لا أكثر. اتّفق اللبنانيون أو اختلفوا، ثمّة قرارات دولية مطلوب تنفيذها. من دونها لا إعمار ولا إصلاح ولا مال ولا ازدهار ولا استقرار. لا يخفى الأمر على أيّ قارئ أو مراقب من بعيد أو من قريب للمشهد.
قبل التوصّل إلى “استراتيجية دفاعية” للدولة، علينا الوصول إلى الدولة، إلى مرحلة يكون فيها عمل المؤسّسات منتظماً، وقدرات الجيش متوافرةً، وهيبة الدولة في كلّ الأزقّة والشوارع وفي كلّ المناطق اللبنانية. من دون ذلك لا لبنان لندافع عنه أو نضع استراتيجية دفاعية من أجله. من دون ذلك، نعود إلى المربّع الأوّل: “قوّة لبنان في ضعفه”، كما كان يردّد الشيخ بيار الجميّل، مؤسّس حزب الكتائب وزعيمه، أو في قوّته، كما كان يقول الراحل السيّد حسن نصرالله، الأمين العامّ لـ”الحزب” وزعيم “وحدة الساحات”.
إقرأ أيضاً: إبراهيم حويجي في صندوق سيّارة جنبلاط
ماذا بعد ذلك؟ بعد ذلك لا مناصّ من العودة إلى ميشال شيحا، الذي لطالما ردّد أنّ لبنان يُحكم بالحكمة لا بالقوّة. وقد جرّبنا الطرق والطرائق كلّها، وعدنا خالي الوفاض إلّا من دمار عميم، أو تقديم تعريف جديد للبنان.